«توكفيل ضد توكفيل»… عن الحريّة والمصلحة

عبد القادر رابحي

1: هل كان من غريب المصادفة أن يتزامن احتلال الجزائر بعودة أليكسيس دو توكفيل (1805-1859) من أمريكا بحمل ثقيل لم يكن ليعي كل جوانبه الفكرية، أثناء مكوثه في دهاليز المحاكم الفرنسية وهو يمتهن القضاء قبل سفره إلى العالم الجديد؟
وهل في إمكاننا أن نعتبر أن ذلك مجرد التقاء بريء لحدثين، أحدهما عام وخطير ويشمل احتلال فرنسا النابليونية للجزائر المحروسة، والآخر فردي ولكنه أخطر، وهو زيارته إلى الجزائر سنة 1841 من أجل معاينة وضع العسكريين الفرنسيين، وهم يصطدمون لتوّهم بالحالة الوجودية للإنسان الجزائري الواقف في وجه التراكمات التاريخية التي تريد أن تجعل من أفراده مجرد (أهاليّ) ينظرون إلى الوافدين إلى أرضهم، دون أن يكون له رأي فاعل في مغازي مجيئهم وأهداف مكوثهم؟ وكيف يمكن لمفكر اجتماعي أن يجد أدوات الربط المعرفية بين ما كتبه عن «الديمقراطية في أمريكا» وبين ما كتبه في «رسالة ثانية عن الجزائر»؟

-2-

يطرح توكفيل، بعد عودته إلى فرنسا، فكرة نادرة عمّا يمكن أن يتصوره المثقف الارستقراطي الغربي، وهو يكتشف المجتمع الجزائري في كتيّب صغير مكوّن من ورقتين اثنتين، تشكل أولاهما رسالة سمّاها «رسالة ثانية عن الجزائر» كتبها سنة 1837، أما الثانية فهي عبارة عن تقرير أعدّه الكاتب سنة 1847 حول المشروع المتعلق بالمخصصات المالية المذهلة المطلوبة من طرف الجزائر (هكذا)، وهو يقصد المستعمَرة الجديدة التي يحتاج مسؤولوها العسكريون إلى إمكانات مادية ضخمة لإطفاء الثورات المحلية وإخضاع ما لم يستطيعوا إخضاعه لمنطق التصور الكولونيالي للحرية، وهو في بدايات مراحله الاستيطانية.
ولعل من يطلع على كتاب «الديمقرطية في أمريكا» ثم يطلع على محتوى الرسالتين، لن يجد صعوبة في إدراك فارق نظرة توكفيل إلى مجتمعين متباعدين جغرافيا وحضاريا، ولكنهما متقاربان في تصورهما لما يجب أن يكون عليه إدراكهما الأولي لمفهوم الحرية. كما أنه لن يجد صعوبة كذلك في فهم فارق تناقض الكاتب الرهيب في تسويغ مبررات ما يجب أن تكون عليه هذه الحرية وهي بين يديّ مجتمع يراه أكبر وأقوى، وبين يدي مجتمع آخر يراه أصغر منه وأضعف، حتى لكأننا أمام كاتبين مختلفين لكلّ منهما نظرته للحرية وقناعاته في الدفاع عنها.
غير أن الأمر يتعلق بالكاتب نفسه وهو يحاول أن يفكك بنية النظام السياسي الفرنسي ويدفع بعجلته العالقة في التصور المحدود للسياسيين الفرنسيين. وهو نفسه الكاتب الذي يحاول من خلال رحلته الأمريكية أن يخرج بنظرية سياسية تنتقل بالتجربة الديمقراطية من وضعيتها المتأزمة التي أدخلت فرنسا في حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي ومن الانقلابات السياسية التي كان أحد ضحاياها، إلى مستوى أكثر ارتباطا بما يسميه بالطبقة المتوسطة من خلال محاولته الإلحاح على التقليل من نسبة الطبقة الفقيرة، في فترة تاريخية لم تكن المجتمعات الأوربية قد انتقلت بعد إلى مستوى الاعتناء بالطبقة الوسطى، بوصفها دعامة اجتماعية للديمقراطيات الهشة، وبوصفها حصانة اقتصادية لأنظمتها السياسية التي لم تهضم بعد كل الأبعاد التي أتي بها فكر التنوير الأوروبي.

-3-

لم يكن تصوّر توكفيل للحرية وهو يدرس وضعية السجون في أمريكا هو نفسه التصوّر الذي خرج به وهو يحاول أن يستمع إلى القائد العسكري دي لا موريسيار، شارحا له الطريقة التي يتّبعها الجيش الفرنسي لإخضاع الجزائريين ومحق ما كان يحققه الأمير عبد القادر في ثورته من انتصارات ضد المستعمر الفرنسي. لقد كان تصوّره الأول للحرية مرتبطا بمفهوم يستقي جذوره من التجربة السياسية للأرستقراطية الفرنسية ومن محاولته مقارنتها بالتجربة الأمريكية وهي تسعى إلى تحقيق فيدرالية سياسية تؤسس لنوع من المساواة، من خلال إعادة مَحْوَرَة العلاقة التي كانت تربط بين السيد والعبد في المجتمع الارستقراطي، بطريقة موضوعية تعيد ترتيب العلاقة المصلحية بينهما، من خلال مَوْضَعَة ما يسميه بعنصر (الحرية) المتوفر عندهما معا، وتحويله، من ثمّة، إلى عنصر فاعل في بناء حركية اجتماعية قادرة على تحقيق نوع من الفاعلية بوصفها دافعا ضروريا لاستتباب الديمقراطية التي تضمن الانتقال إلى المجتمع البورجوازي.
أما تصوّره الثاني للحرية فهو منطلق من ترسيخ معرفته بتجربة السجون في أمريكا، وهي مهمته الأصلية الذي ذهب من أجلها إلى أمريكا، ومن محاولة نقلها إلى واقع جزائري رافضٍ لحضور المستعمر، ومتعنّتٍ في فهم كل محاولة لتدجينه. ولم يكن الاستماع لشروحات دو لا موريسيار غير تأكيد على منطق استقاه من اطلاعه على عالم السجون، من أجل نقل خلاصتها إلى واقع الجزائر وتعميمه على كامل ترابها.
لقد كان توكفيل منبهرا بالفاعلية والنشاط اللذين يميّزان المجتمع الأمريكي أفرادا وجماعات. وهي نفسها الفاعلية التي لاحظها خلال زيارته للجزائر في بداية الاستعمار، تماما كما لاحظها بعده عالم الاجتماع بيير بورديو في نهاية الاستعمار، في أفراد المجتمع الجزائري وهم يستعدون للتعامل مع وضع كولونياليّ جديد، بكل ما يحمله من إكراهات وجودية واجتماعية وسياسية، كان دافعها الأساس تكريس وضعية الإخضاع التي بدأ يتعرض لها هذا المجتمع الحيوي من طرف قوّة استعمارية لم يعهد طرائق تعاملها، ولم يعرف الروابط الذاتية والموضوعية التي بإمكانها أن تحدد علاقاته بها، كما كان الحال بالنسبة لعلاقته بالعثمانيين خلال حكمهم للجزائر.

-4-

غير أن الزاوية التي نظر بها توكفيل إلى حيوية المجتمع الأمريكي لا تبدو متناقضة مع نظرته للحيوية نفسها في المجتمع الجزائري من حيث الفوارق الكبيرة بين المجتمعين حسب، ولكن تبدو جوهرية وفاصلة في ما يحمله التصور الكولونيالي للطبقة السياسية الفرنسية المتنورة عن أفراد المجتمع الجزائري وعن حيويتهم. وهي لذلك، تبدو ضِديّة في بنائها لمفهوم متناقض للحرية، فمن جهة، هناك حرية مفصلة على مقاس الأمريكي، يبني فيها توكفيل رؤيته الحداثية لمجتمع ديناميكي قادر على قلب العلاقات الارستقراطية بين القويّ والضعيف إلى حالة إيجابية تدفع المجتمع الديمقراطي للوصول إلى حصانة فكرية واجتماعية، مردّها أصلا توثيق اللحمة التي تشد أفراده في علاقاتهم الليبرالية المبنية على المصلحة المشتركة. ومن جهة ثانية، هناك حرية أخرى يحاول توكفيل أن يفصّلها على مقاس المجتمع الجزائري، وتحمل تصورا خاصا لما يجب على فرنسا فعله تجاه الحيوية نفسها، التي جعلته يجتهد في وضع تصوّر عنصري ضيق لنقاط الاختلاف التي لاحظها بين الأمازيغ والعرب الذين عاشوا طيلة قرون ضمن منظومة اجتماعية واحدة.
ففي الحالة الأولى يصبح الفرد الأمريكي عنصرا فاعلا في صياغة المشروع الديمقراطي وفق النظرية التوكفيلية، لا من حيث الارتقاء بأكبر عدد ممكن من أفراده من وضعية الطبقة الفقيرة إلى وضعية الطبقة المتوسطة الداعمة للمسار الديمقراطي، وهي الحالة التي لم تكن لتتحقق بعد في مجتمعه الفرنسي نفسه، ولكن كذلك من حيث تحقيق مبدأ الحرية الذي لا يتم إلا بدونهم.
أما في الحالة الثانية، فنراه يقدم لنا في (رسالته الثانية عن الجزائر) أنموذجا للتصور الكولونيالي في أبهى ما يمكن أن تكون عليه الديمقراطية التوكفيلية ومبدئية اندراجها ضمن تحقيق مفهومٍ للسيطرة يحوّل هذه الحيوية إلى خضوع، ويحوّل الأفراد إلى أهالي، عن طريق سياسة إعادة السلم والتفقير المتواصل. وهو الأنموذج الذي يتجلّى في ما يحققه الشرط الكولونيالي من ممارسة سياسية تنزل بحيوية الفرد الجزائري من مستوى الحرية المرتبطة بالديمقراطية، كما يراها دوتوكفيل في أمريكا، إلى مستوى العبودية والخضوع المُمأْسس ضمن ما يمكن تسميته بـ»المناولة السياسية» التي تنظم حياة الأهالي بوصفهم مجتمعاً أدنى داخل ما تسميه الباحثة إيفون كولونا بـ»التنظيم الإداري» لمجتمع مقسم إلى قسمين، أحدهما أكثر رقيا وتحضرا، أفراده غربيون أوروبيون بإمكانهم أن ينتدبوا أفرادا من الأهالي لتسيير القسم الثاني المكوّن من السكان الأصليين، لتكريس السُلّم التراتبي ولتوصيل أبجدياته التسييرية من خلال»السيطرة على الأهالي وانتداب قُوّاد منهم نتابعهم من بعيد فيطيعوننا من دون أن يعرفوننا»(رسالة ثانية عن الجزائر).
وهو نفسه الوضع الذي تحدث عنه مصطفى الأشرف بإسهاب وهو يفكك البنية الثقافية للحالة الكولونيالية في أكثر صورها بشاعةً في كتابه «الجزائر، أمة ومجتمع» حيث يقول متحدثا عما فعله بيجو: «في إطار السلطة العسكرية، وسع من دائرة الاحتلال من خلال تأسيس مكاتب عربية مسيّرة من طرف ضباط مهمتهم حراسة الجميع، من الشيوخ القُوّاد إلى أبسط مرؤوسيهم ، وكذلك من خلال نصب المحاكم الرادعة وجمع الضرائب».

-5-

غير أن مفهوم الحرية هذا لا يجد له توكفيل طريقا للواقع وهو يعاين عملية الإخضاع التي يقوم بها الجيش الفرنسي في قرى ومداشر التل الجزائري العصيّ على السقوط في المصيدة الاستعمارية، ولذلك، فهو سيجهد نفسه في انتقاد بطء الآلة الحربية الفرنسية في تحقيق هذا الإخضاع وينتقد كذلك علاقتها الواقعية بمفهوم (الحرية) في واقع الجزائريين، داعيا إلى نوع من التعالي في تحقيق هذا البعد الذي يراه ضروريا لكي تكتمل صورة فرنسا المهيمنة على بلد مثل الجزائر، التي تستطيع من خلاله أن تبسط قبضتها على كلّ الضفة الجنوبية للبحر المتوسط.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى