توماس ترانسترومر أكثر من شاعر

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عباس بيضون

المصدر: السفير

 

 

كان أول عهدي بتوماس ترانسترومر الشاعر السويدي حائز نوبل الذي توفي أمس كتاباً أرسلته إليّ صديقة سويدية التقيتها في المغرب وتحدثنا عن الشعر السويدي. كانت المرة الأولى التي أسمع فيها باسم ترانسترومر. بعد ذلك أرسلت إليّ ترجمة فرنسية لشعر ترانسترومر الذي كان نتاجه قليلاً، فالشاعر الذي أصيب مبكراً بجلطة شلته وحبسته عن الكلام في بداية التسعينيات هو في مقتبل ستينياته وبقي قرابة 25 سنة في هذه الحال.

لا أخفي ان شعر ترانسترومر فاجأني، فأنا الذي مارست الشعر وتمرست في قراءته لم أكن انتظر من ترانسترومر أن يكون كشفاً جديداً لي، فاجأتني بادئ بدء هذه القدرة على استخراج الشعر من مواضع ومواضيع لا يألفها ولا يتصل بها.

هذه القدرة على اقتلاع الشعر وعلى ايجاده حيث لا ينتظر ولا يتوقع. تقرأ توماس ترانسترومر فيأخذك العجب من أن ما تقرأه ليس منظوماً كعهدك بالشعر وليس غناء كالذي اعتاده سمعك واعتاده نظرك وليس منغوماً بحيث يرتفع بالكلام ويتسامى به. ليس هذا غناء الشعر المألوف ولا هذا لحنه المعتاد فشعر ترانسترومر ليس بالجزالة التي ترجوها ولا بالتصعيد الذي تألفه ولا بالزركشة التي لا يخلو منها الشعر. أقول ان شعر ترانسترومر كان أكثر ألفة من بقية الشعر. لم يكن غريباً بل كان محسوساً حقيقياً تشعر به يجسك ويلمسك في جسدك وفي جلدك. يمكننا ان نقول عن هذا الشعر الذي يدور حول البلطيق انه يجعلك تمر في المضائق بين الجزر، ويجعلك تنسطح على ظهر السفينة ويجعلك تشعر بالموجة وبالسمك وبنباتات وطيور وغابات وجزر واشجار لم ترصدها لكنها ماثلة أمامك.

ما يحدثه فيك نصّ ترنسترومر هو أحساس عميق بالمغامرة، أحساس شبه جسدي كتلك القصيدة التي يروي فيها الشاعر انه استيقظ على مقعد سيارته وبقي وقتاً لا يعرف نفسه. مع ذلك في هذا الشعر قيم كبيرة ضامرة فيه، كما ان فيه حساً يتردد بين عادية مفرطة وبين سمّو أخاذ.

سنقول عن ترانسترومر انه ليس من سلالة الشعراء وانه ولد في الغالب في منطقة أخرى والتقط الشعر من جزر البلطيق ومن غاباته. لنقل انه ينقل إلينا بالدرجة الأولى عالماً لا نتخيله بالكاد، لكنه يحمله إلينا مجسّداً محسوساً ويجعلنا نجوس ما هو حقيقي، عجيباً بقدر ما هو ملموس ومعاين.

ترانسترومر هكذا فاتن وعادي. شاعر وسارد ومكتشف ورحالة، ليس من سلالة الشعراء، كأنه من منطقة أخرى، قصائده ليست كالقصائد وموضوعاته غير الموضوعات ونظمه غير النظم. لكن مع ذلك كله أكثر من شاعر وأكثر من أديب، انه بذلك يمنحنا شعراً آخر، يمنحنا ما كنّا لا نعرف انه الشعر، هو بذلك يعلمنا امثولة أخرى عن الشعر وتعريفاً آخر له يكسر الحدود ويجمع الأنواع ويلتقط عن الأرض وعن الموج وعن المدينة ما يهمله الآخرون أو لا يصدقون أنه يضمر شعراً ويضمر الهاماً.

عانى ترانسترومر الشلل وحبسة اللسان 25 عاماً. كان فيها صامتاً يتكلم بلغة أشبه بالعواء، زوجته وحدها، الممرضة القديمة، قادرة على فهمها، حين زار لبنان مع عائلته ومترجمه، قابلته وأجريت معه حديثاً بتلك اللغة التي تشبه العواء والتي تنقلها زوجته إلى السويدية فينقلها المترجم إلى العربية. كان هذا لقاء فريداً ولا يزال في حلقي، لذا حين اسمع ان ترانسترومر توفي اشعر ان هذا النعي يخصني وانه لسبب ما قريب وشخصي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى