توني موريسون.. يوميات العنصرية والتحرّش

ساري موسى

رغم دخولها في العقد التاسع من عمرها، لم تنَل الشيخوخة من همّة توني موريسون (1931)، ولم توهن عزيمتها الكتابيّة، إذ أصدرت بعد تجاوزها الثمانين روايتين وتعمل على الثالثة. «ليكن الرب في عون الطفلة» (دار أثر ـ ترجمة بثينة الإبراهيم) هي روايتها الحادية عشرة. العنوان يشي بالاستسلام من أن يأتي العون من أحد بشري، فلا مجال إلا بالتضرع إلى الله. يبدو أن موريسون وصلت إلى اليأس من أن يتخلّى المجتمع الأميركي عن العنصريّة التي ظلت تتناولها في رواياتها منذ باكورتها «العين الأشدّ زرقة» (1970)، والتي تشكل إحدى موضوعتي هذه الرواية.
إذاً، ورغم أن الرواية تجري في العقدين الأخيرين، نجد استمراراً في الممارسة العنصرية تجاه السود، حيث نُعتت برايد، بطلة الرواية، أكثر من مرة بالقردة من زملائها الطلاب في المدرسة، وكان أقسى ما أوردته موريسون في هذا السياق ما فعلته الشرطة الأميركية عندما بلّغ أحد الآباء السود عن اختفاء ابنه الصغير، فما كان من الشرطة إلا أن تأكدت من أنه ليس للوالد سجل إجرامي، بعدما اشتبهت به! عثر على الصبي لاحقاً مرمياً في مجرور للصرف الصحي، وقد أكلت جثته الديدان وقرضتها الجرذان، بعد أن تمّ الاعتداء عليه جنسياً.

سلوكيات عنصرية
كل ما تورده الكاتبة الحائزة جائزة نوبل 1993 من هذه السلوكيات العنصرية الصادمة والقاسية، والتفاصيل اليومية الصغيرة، يساعدنا في فهم ما يتكرّر كلّ بضعة أشهر في السنوات الأخيرة في أكثر من ولاية أميركية، ونقرأه على الإنترنت أو نشاهده في نشرات الأخبار، من اعتداءات تقوم بها الشرطة وتطال رجالاً سوداً عُزّلاً ومستسلمين تصل إلى حد إطلاق النار عليهم دون مبرر، والتي تؤدي إلى اندلاع مظاهرات مستنكرة تتطور أحياناً إلى مواجهات وأعمال شغب.
لكن مأساة برايد بدأت مبكراً، منذ ولادتها، وبدأت من داخل بيتها. فقد ولدت بنتاً سوداء لأبوين خلاسيين، أي أن ثمة أجداداً سوداً للطفلة من الطرفين اللذين فرحا بالتخلّص من هذه الجينة البعيدة. هلعت أمها حين رأتها أول مرة بعد الولادة «كانت سوداء جداً إلى درجة أرعبتني، سوداء مثل منتصف الليل، سوداء مثل سودانية… أظنّ أن لون القطران هو الأقرب»، وما كان من الأب إلى أن انفصل عن زوجته لظنّه أنها «عبثت» مع رجل أسود. بدأ التمييز ضد برايد من أمها إذاً، التي حرمتها من حنانها، وتحوّلت عن الرضاعة الطبيعية إلى الرضّاعة الاصطناعية كي لا تمسّ الزنجية الصغيرة حلمتها. واستمرّت الأم لا تمسّ ابنتها، إلى درجة أن الطفلة كانت تتعمّد الشقاوة لتحصل على ملامسة من أمها وإن كانت عن طريق الضرب. إلى هذا الحدّ أخضعت نظرة المجتمع الأم لتصنيفها، وأكثر، إذ إنها كادت ترتكب جريمة بحق طفلتها «أعرف أنني كنت مجنونة لدقيقة ذات مرة، لأني وضعت بطانية على وجهها وضغطتها ـ لثوانٍ قليلة فقط ـ لكني لم أستطع فعل ذلك».
الموضوعة الثانية التي تتناولها الرواية هي التحرش الجنسي بالأطفال، والتي تركّز عليها الكاتبة بشيء من المبالغة المتعمّدة بقصد قرع أجراس الإنذار في مجتمع معقد، كثير الأمراض النفسية والسلوكيات الشاذة، إذ لم تسلم شخصية من الشخصيات في صغرها من أن تتعرّض لاعتداء، أو تكون شاهدة عليه، وهو ما أثّر في نفسية كل منها، فَـ «ما تفعله للأطفال يؤثر بهم، وقد لا ينسونه أبداً»، كما تقول أم برايد نادمة على كل ما فعلته بابنتها.
شهدت برايد عندما كانت صغيرة ضد معلمة روضة متّهمة بالتحرش بتلاميذها، وتسببت في حبسها خمس عشرة سنة. لكنها تتعاطف معها عند إطلاق سراحها المشروط، وتنتظرها على باب السجن ومعها كيس من الهدايا، ومبلغ من المال. وبسبب هذا التعاطف غير المفهوم من قبله، يتركها حبيبها بوكر معبراً عن احتقاره لها. تتعرّض برايد لضرب مُبرّح من المرأة بعد أن تعرفها بنفسها، كما يحدث لها بعد تخلّي بوكر عنها مجموعة من التغيّرات الجسمانية الغريبة وغير المفهومة: يختفي الشعر عن عانتها ومن تحت إبطيها، يلتحم الثقبان في شحمتي أذنيها، يضمر ثدياها ويصير صدرها مسطحاً، تتأخر دورتها الشهرية لشهرين أو ثلاثة. تبدو بهذه التغيرات كأنها تعود إلى طفولتها، بكل ما تمثله هذه المرحلة بالنسبة لها من وحدة وضعف وسخرية، فيصيبها الرعب من ذلك، وتتشجّع مقررة اقتفاء أثر بوكر المختفي، ومواجهته بالحقيقة، بعد أن أشعرها تركه غير المفهوم لها بأنها منبوذة من الجميع.
استخدمت موريسون أكثر من نوعية للراوي، بدت معها الرواية في سويتين متباينتين. إذ تروي عدد من الشخصيات، وكلهنّ نساء، جانباً من الأحداث بضمير المتكلم، ويتدخل الراوي العليم في فصول غلب عليها الطول وأنها أقل جاذبية من الفصول التي ترويها الشخصيات والتي اتصفت بالحيوية.
اتّسمت الرواية بشيء من «الضّيق»، بمعنى أنها مكتوبة على المقاس تماماً، لا يمر تفصيل صغير واحد ويسقط، بل كلها يكون لها تأثير هام وأحياناً حاسم في مجرى الأحداث، فمثلاً السرير الذي كانت عمّة بوكر تحرق نوابضه للقضاء على بيوض الحشرات فيه، قبل أن تفقس وتملأ البيت، يتسبب في احتراق الفرشة عندما كانت العمة نائمة فوقها، وموتها في المستشفى بعد أيام.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى