ثقافة الإختلاف عند رواد المسرح / د.مؤيد حمزة ( الأردن )

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –
في 22 مايو 1922، توفي المسرحي فاختانغوف عن عمر 39 عاماً. كان مخرجاً عبقرياً. عمل في الأستوديو التمثيلي التابع لمسرح موسكو الفني كمربي ممثل تحت إشراف مباشر من قبل سوليرجتسكي وستانسلافسكي. نذكر هنا أن فاختانغوف نفسه درس في 1911 في نفس الأستوديو في مجموعة سوليرجتسكي، والذي يعتبر الأستاذ المباشر المربي للفنان فاختانغوف.
كانت الصدمة برحيل ( العبقري الشاب) أقوى من إدراك الوسط المسرحي بل والثقافي بشكل عام. لكن أحداً لم يحزن على المبدع العبقري أكثر من ستانسلافسكي الذي وثق به لدرجة أن اعتبره تلميذه النجيب، وكان كثيراً ما يستشيره فيما يتعلق بالبعد النفسي للشخصيات، وأوكل إليه أن يدرّس إحدى مجموعات الطلبة في استوديو التمثيل في 1920.
بعيد الوفاة بدأت عملية التنقيب في بيت فاختانغوف عن أي أثر له يمكن نشره، حتى لو كان رسائل متبادلة بينه وبين بعض الفنانين والمثقفين، ربما يُستشف منها بعض مبادئه الفنية التي يمكن أن يُستفاد منها، لكن المفاجأة الجميلة كانت أن عثروا على ما هو أهم من ذلك.. دفتر صغير لفاختانغوف كتب فيه بعض أفكاره وآرائه المسرحية.
لم يتردد أحد في النشر، وانتشرت تلك الخطوط القليلة عن مسرح العبقري الشاب المتوفى، فيما بات يعرف بدفتر فاختانغوف. وكان من ضمن ما كتب فيه: “أن ستانسلافسكي قتل المسرح في المسرح”. طبعاً الحديث هنا عن الجدل الذي كان يدور في ذلك الوقت بين النزعة لمحاكاة الطبيعة والواقع، وفي المقابل النزعة للمسرحة. وأن المسرح له عالمه الخاص وأسلوبه الخاص بل وشرطيته الخاصة. تصوروا مشاعر ستانسلافسكي وهو يقرأ خبراً كهذا في جرائد الصباح؟!!
لم يخطر ببال ستانلافسكي أن يرد -على سبيل المثال- بأن عقدة الطالب تجاه الأستاذ هي التي تدفع فاختانغوف للحديث بهذه الطريقة، ولم يتذكر أن والد فاختانغوف أرمني الأصل، فيخطر ببال ستانسلافسكي أن يتهم فاختانغوف بالشوفينية، ولا تجرأت شويعرة على وصف فاختانغوف بالغباء ليثني ستانسلافسكي بدوره عليها ويؤكد أن ليس للغباء علاج!!. ولا حرض صغار الصحفيين ومن يعتدي على مهنة الإعلام أن يهاجموا فاختانغوف ويفضحوه ويثيروا البلبلة حول شخصه. ولا خاصم من نشر أفكار فاختانغوف واتهمهم بأن جريدتهم أصبحت تافهة!!. وقبل كل ذلك لم يفكر ستانسلافسكي باستغلال علاقاته القوية بالحزب الشيوعي الذي لم يتورع عن قتل 20 مليون روسي بين عامي 1917 و 1921، ولكنهم لم يجرؤوا أبداً على إغضاب ستانسلافسكي، بل وكانوا يتملقونه، وينسون دائماً أو يتناسون أنه ينتمي لعائلة أريستوقراطية!! فهو (ستانسلافسكي) وببساطة فنان حقيقي، يعرف كيف يستقبل النقد ويعمل بصمت على التغيير والتطوير.
أغلق ستانسلافسكي بابه على نفسه كما يُروى عنه. يُقال أنه حزن كثيراً، لكنه أبداً لم يفكر بالإساءة لفاختانغوف أو التقليل من شأنه. لا أحد يستطيع أن يخمن بماذا كان يفكر، لكن ستانسلافسكي وأثناء تواجده في جولة مسرحية في الولايات المتحدة، قرر في عام 1924 وبتشجيع من مجموعة مسرحيين التقى بهم هناك أن يكتب كتاباً عن حياته الفنية في المسرح، يوضح فيه المراحل التي مرت بها تجاربه، اخفاقاته ونجاحاته بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على مسيرته في الفن. بدون أدنى شك كان ستانسلافسكي يفكر بدفتر ابنه الحبيب إلى قلبه فاختانغوف وهو يقرر أن يكتب .. فأنتج أحد أهم كتب المسرح الذي لا يُستغنى عنه لأي دارس لفن المسرح. إنه كتاب (حياتي في الفن لستانسلافسكي) الذي كتبه عام 1924 في الولايات المتحدة حيث طبع لأول مرة باللغة الإنجليزية، قبل أن يطبع في روسيا باللغة الروسية عام 1925 في أول طبعة. تبع هذا الكتاب مجموعة من الكتب المهمة لستانسلافسكي جُمعت في ثمان مجلدات، أصبحت ثروة عالمية وليس روسية فحسب.
وصار العالم يتحدث عن ما بات يعرف بمنهج ستانسلافسكي، وبيّن ستانسلافسكي لمن يقرأ بعناية أن مرحلة محاكاة الطبيعة وتأثره بمسرح مايننغن، ما كانت إلا مجرد مرحلة في تاريخه الفني الطويل، وليست السمة المميزة لمسرحه طوال تاريخه.
انتقد “مايرهولد” “تاييروف” نقداً لاذعاً في أكثر من مقالة مكتوبة، اتهمه بالجهل، وبخلط المناهج ببعضها دون وعي، وأحياناً روي عن مايرهولد اتهامه لتاييروف بمداهنة السلطة وتملقها. لكن كل هذه الاتهامات لم تحل دون استمرار تاييروف في إبداعاته، ولا يروى أنه قال لمايرهولد أو كتب عنه: “الكلاب تنبح والقافلة تسير”!!. وكل من يتابع إبداعات تاييروف عبر المراحل سيلاحظ ولابد أنه استفاد من ملاحظات مايرهولد، وأن تلك الملاحظات كان لها تأثيراً إيجابياً على تطور أسلوب تاييروف إلى أن أصبح أحد أهم رواد المسرح في القرن العشرين. وشكَّل تاييروف نقطة تحوّل مهمة في تاريخ المسرح الروسي الحديث.
كان مايرهولد الأشد ضراوة في انتقاد منهج ستانسلافسكي. بل وكان يؤكد دائماً على سلبيات منهج ستانسلافسكي في المعايشة، وفي الإخراج، والديكورات وحتى الأزياء.. وأحياناً باستخدام أسلوب السخرية والتهكم. حتى أن كتاب مايرهولد (في الفن المسرحي) والذي ترجمه الدكتور شريف شاكر يمتلئ بهذه الأمثلة، كما ويكرر مايرهولد انتقاداته اللاذعة في الكثير من محاضراته التي عقدها في 1918-1919، وبنفس الأسلوب ويزيد. وقد صدر هذا الكتاب عن الهيئة العربية للمسرح.
ستانسلافسكي في المقابل ورغم انتقادات مايرهولد الشديدة، وهجره لمسرح موسكو الفني في 1902، لم يتورع عن التعامل مع مايرهولد، فأسس معه مختبر شارع بوفارسكي في 1904، وقاموا بتجارب كثيرة في المختبر وكرّس غالبية وقته فيه لدرجة أن فناني مسرح موسكو الفني كانوا يغارون من تكريس غالبية وقت وجهد ستانسلافسكي للمختبر، بل وحتى جزءاً كبيراً من ثروته الخاصة. وأجريت هناك العديد من التجارب المهمة. وكم يستمتع الباحث المسرحي حين يقارن بين ما قاله مايرهولد عن تجربة التعاون هذه، وما قاله ستانسلافسكي عنها، هذه المتعة تقود للغنى المعرفي وتسلط الضوء بشكل ساطع على إبداعات كلا المبدعين وطبيعة منهج كل منهما وأسلوبه. إنها ثقافة الإختلاف، بل هي ثمار الإختلاف التي أعطت للمسرح الروسي دفعة قوية باتجاه الحداثة والعالمية. هذا النقد الذي كان لاذعاً في أغلب الأحيان لم يُلقي الحجر في المياه الراكدة فحسب، بل وحركها تحريكاً قوياً أدى لتطهيرها وتنقيتها من العفن والأسن. ومنع ظهور مستنقعات فكرية وفنية تُمجَّد وتتحول إلى آلهة للفن لا يسمح بأن تمس.
كان مايرهولد مقرباً جداً من فاختانغوف وكان يعتبر توأمه الفني من قبل الكثيرين حتى أن بوريس زاخافا نفسه كتب كتاباً مرجعاً عن الرائدين المسرحيين بعنوان (معاصرون). ولم يتردد مايرهولد في مدح إخراج فاختانغوف والثناء على إبداعه في أكثر من مقالة وموضع، في نفس الوقت الذي كان يهاجم به مسرح موسكو الفني، ومديره ستانسلافسكي الذي كان يشرف على تدريس فاختانغوف، دون أن يجلب هذا الشيء الضغينة ضد فاختانغوف، أو يضعه تحت خيار “إما نحن وإما علاقتك بمايرهولد”. ولم يشر أحد إلى أن أصل فاختانغوف الأرمني جعله أقرب لمايرهولد بصفته ألماني الأصل وليس روسي… هذا “العبط” النقدي هو ما نواجهه نحن عندما ننتقد ولم يواجهه مايرهولد في زمانه. في المقابل كان فاختانغوف منذ عام 1920- كما أسلفنا- وحتى تاريخ وفاته 1922 يشرف على تدريس دفعة من طلبة التمثيل في ما بات يسمى مسرح موسكو الفني الأكاديمي، ليس في ورشة مسرحية فهلوية، بل في دورة مسرحية تستمر لعامين، يتم تأهيل الطالب فيها على المستويين العملي والنظري.
في عام 1902 كان مسرح موسكو الفني في أوج تألقه، وكان يعتبر تقدمياً. حارب الزيف المسرحي وصنع ثورة في عالم المسرح، لدرجة أن نجاح أي مسرح كان يقاس بمدى قربه من أسلوب فن مسرح موسكو الفني. في هذا الوقت بالتحديد يكتب الناقد والكاتب المسرحي بريوسوف مقالة بعنوان: ( الحقيقة غير الضرورية لأحد) هاجم بها منهج مسرح موسكو الفني بالكامل، بل وفنّده من خلال إثبات أنه يتعارض وطبيعة الفن المسرحي الذي لم يسع طوال تاريخه لتقديم صورة فوتوغرافية عن الحياة، ولكنه يقدم تأويلاً فنياً عنها. وقدم في سبيل ذلك الكثير من الأمثلة من تاريخ المسرح الإغريقي، ومسرح الكوميديا ديل آرتي، وغيرها. شكلت هذه المقالة نقطة تحول في مسيرة المسرح العالمي وليس الروسي فقط، وعلقت الجرس بأن التغيير بات ضرورة ملحة. كان أول المستجيبين لهذه الدعوة مايرهولد نفسه حيث غادر مسرح موسكو الفني، وبدأ البحث والتفكير، ودرس تاريخ المسرح دراسة تحليلية عميقة إلى أن توصل لما أسماه بالمسرح الشرطي، والشرطية المسرحية كمنهج له يتبعه في إبداعه. بل وأصبح بريوسوف فيما بعد بمثابة المشرف الأدبي (الدراماتورغ) لمسرح مايرهولد.
استُقبلت مقالة بريوسوف باحترام بالغ، ولم يحاججه أحد بأنه ناقد وأديب ولا شأن له بالمسرح، (وكأن النقد يكون في المدح والتطبيل لا غير !!)، ولم يصفه أحد بأنه غارق في تاريخ المسرح، ويجهل تفاصيل عملية الإخراج المعاصر وتصميم المناظر (كما كانوا يسمونها) والأزياء وغيرها، بل قرر مايرهولد لاحقاً في معرض حديثه عن بريوسوف: “مسرح المستقبل يبدأ من الأدب”. وعندما أسس ستانسلافسكي مختبر شارع بوفارسكي مع مايرهولد 1904 كان بريوسوف يرافقهما في هذه المرحلة. بهذا الشكل كانت “ثقافة الإختلاف” تصنع المسرح الروسي وتنقله إلى المقدمة في صفوف مسارح العالم.
لا يوجد مسرحي إلا وسمع بالخلافات والجدل بين منهجي ستانسلافسكي ومايرهولد. وغالباً ما يخلط الكثيرون بين ما قاله مايرهولد وما قاله مؤيدو منهجه المسرحي. والعكس صحيح، لكن…. من سمع أو يعرف أن ستانسلافسكي استعان بمايرهولد لإخراج ثلاثة عروض في المسرح الأوبرالي في الوقت الذي أغلقت فيه السلطات السوفيتية مسرح مايرهولد. وجاءت مجموعة من الممثلين في المسرح الأوبرالي من تلاميذ ستانسلافسكي لعيادة أستاذهم المربي وهو على فراش المرض، وليشتكوا له من مايرهولد، لأنه يطلب منهم الأداء بطريقة تناقض ما تعلموه من ستانسلافسكي. بل ويقود العرض بمنهجية مناقضة لمنهجه. ماذا تتوقعوا كان رد الفنان الأكبر؟ هل طرده؟ ( فنّشه)؟ هل قال له أسفرك يا بن… الألمان؟ هل استغل غضب السلطات على مايرهولد ليدمره تدميراَ؟
المربي الكبير.. نظر إلى تلاميذه نظرة طويلة .. صمت مطبق من الجميع.. ثم يقول: “إنه مخرج العرض.. ولكني أستاذكم”.. فهم التلاميذ الرسالة وعرفوا أن المطلوب تنفيذ تعاليم المخرج، والالتزام بأسلوبه، دون أن ينسوا ما تأسسوا عليه. ستانسلافسكي يذكر الجملة التالية في أكثر من موضع، وفي أكثر من كتاب من كتبه : “التمثيل من الخارج للداخل طريق ممكن، لكنه ليس الطريق الأصح”.
إنها ثقافة الإختلاف التي طورت أكثر من منهج في الأداء التمثيلي ليقول ليوبيموف – والذي توفي في هذا الشهر – ورداً على سؤال من أحد تلاميذه “أيهما أصح أن نصل للشخصية من الداخل للخارج كما يقول ستانسلافسكي، أم من الخارج للداخل كما يريد مايرهولد؟ فيرد ليوبيموف: بُني.. المهم أن تصل للشخصية”.
غياب ثقافة الإختلاف هذه تسبَّبَ في ترسيخ القديم وتأليهه، وتحوُّل الجديد بعد مرور زمن إلى مستنقع آسن لا يجرؤ أحد على أن يلقي به حجراً فما بالك بتحريك مياهه!! لهذا السبب بالتحديد يستحيل أن يولد بيننا رائداً مسرحياً بحجم من ذكرنا من الرواد المسرحيين. فدعاة الفن والخبرة العالمية لا يشبهونهم، لكنهم أشبه ما يكونوا بستالين الذي لم يتردد في إعدام مايرهولد..
ثقافة الإختلاف تبني وتطور هناك.. فماذا تفعل في بلادنا وفي مسرحنا!!!
drmoayyad@yahoo.com
دكتور فنون مسرحية، مخرج، مربي ممثل، دراماتورغ- الأردن