ثلاثة أرباعي ذاكرة / رحاب أبو هوشر (الأردن)

الجسرة الثقافية الالكترونية -خاص –

لا تستوجب الذاكرة فعلا ماضيا، موغلا في مسافته الزمنية، فاللحظة لا تبرق إلا لتنتهي، وتسيل في نهر الماضي، إلى مصبها في الذاكرة، وهناك يكمن مصيرها، فإما أن تبقى خالدة ساطعة، أو تصيبها دورة حياة كل الأشياء لتتلاشى تماما، أو أن يحميها مكر معدنها الأصلي، فتنشب أظافرها بالمضارع، تقيم في برزخ أنتجته سطوتها، تجاورنا في مقاعدنا وأسرة نومنا، وترمي وردها أو شوكها في طرقاتنا، ترافقنا كالظل، وتمنحها محاولات الانفكاك عنها صلابة أكثر.

 

تأسرنا دوامات النوستالجيا، ونسقط في فخ الذاكرة كلنا، سواء من كان منا ينكر فكرة الحنين، ليرفض من خلالها التفاتات الماضي المعيقة، أو من يحياها منسجما ومستسلما لقواها الجاذبة، وبين الاثنين، ثمة من تتناوب عليه قوتا الوعي واللاوعي. النوستالجيا رابضة أبدا في تلافيف الذاكرة، في الزمن المتداخل غير القابل للقص بسكين حادة، تقتنص فجوات ينشق عنها مضارع فاجأته العلل، وضباب يغبش المستقبل، فتنهض كمارد محبوس في ساحات الوعي الخلفية، تنهض ضارية برائحة عنفوان عتيق، تضرب الأرض خبطا كعصا ضرير، لكنها تضرب في أرض ضاعت مرة وإلى الأبد. 

 

كلما رغبت بمعاينة مدى عافية أيامي، قست على الفور تلك المسافة التي تفصلني عن خلايا ذاكرتي، وإذا سافرت في صور ومشاهد، وفاح في قلبي شجن، أدركت أن كعب مسيري اهترأ، وأنني أدخل طورا من أطوارالنوستالجيا.

 

ما زال للطفولة في ذاكرتي بريق، لم يخفت كما خفتت مراحل وتفاصيل أخرى، ربما أن الطفولة أول ماء ينسكب في الذاكرة، ليبقى الأصفى والأكثر نقاء، وربما هو الحنين وحسب! يختلف العالم تماما في ذاكرة الطفل، فكرته عن العالم هي المختلفة. عالم متوالي الدهشة، لا يفقد سحره حتى في لحظة انجماد زمنه. كان العالم المختزن في ذاكرتي، كبيرا وعظيما وذا مهابة، البنايات شاهقة وجميلة، والشوارع فسيحة، والشجر، حتى الشجر كان مغترا بخضرته في ذاكرتي. إنها اللحظات والتفاصيل تتجمد عند مفصل زمني في عمر الصغير، لا سيما إذا انفصل عنها لأي سبب، ولم ترافقه في تدرجات حياته، لتتبدل أفكاره وتصوراته عنها. بعد سنوات طويلة من انقطاعي عن مدرستي التي درست فيه الابتدائية والاعدادية، والتي لم أزرها أبدا بعد تخرجي منها، اصبت بنوبة من نوبات الحنين، وذهبت لزيارتها، لتفقد ذاكرتي فيها، ويا للخيبة! لم أكد أتعرف إليها، كدت أنكرها لولا أن العنوان صحيح تماما. لم تكن مدرستي التي في الذاكرة، ما أضيق شارعها الذي أعرفه طويل ومتسع، كان مكتظا بفظاظة بشعة، والمدرسة التي كانت في ذاكرتي قلعة مهيبة، لم تكن سوى مبنى شاحب، من ثلاثة طوابق، لا يختلف عن أي مدرسة عادية، غير مثيرة لأي فضول ناهيك عن الشوق، ولا يشبه مدرستي الجميلة التي أذكر! لم تثر في الزيارة إلا الخيبة والإحباط، وشعورا باهتا صادما، وأهم ما في الحكاية كلها، أن صورة مدرستي في الذاكرة تهشمت، وفقدت بسبب استعادتي الحمقاء، جزءا حميما من طفولتي.

 

الاستعادات أحيانا، تكون مرهما يسكن أوجاع الحنين، وجحود الحاضر، هذا أثر بعضها، لكن كثير من الاستعادات لها أثر المحو، وتحويل الذكرى المصرة على الوضوح، إلى طيوف بعيدة، أشبه بجثث محنطة ملقاة في العتمة، في المحو أحيانا أثر علاجي، للأجزاء المؤلمة من الذاكرة، انمحاء تدريجي للذكرى، واصفرار ورق احتفظ بخضرته زمنا طويلا. أما الأكثر قسوة، فهو الدوس على موضع الألم الطازج، لتجنب تباريح الذاكرة، دوس يعالج الألم بالكي.

 

يقوم المعالجون بالطاقة، وهو علاج مكمل حديث نسبيا، بعقد جلسات لمرضاهم، لتخليصهم من آلامهم الجسدية والنفسية، باستخدام أساليب علم يسمى البرمجة اللغوية العصبية، تعمل على إحلال أفكار وقناعات وتصورات جديدة بدل الراسخة في لاوعي المريض، والمسببة لآلامه، إنهم يجرون ما يشبه عملية جراحية للذاكرة، وعاء الذكريات والخبرات، مصدر الألم، عملية هدم ومحو لبنيان الذاكرة، ليخرج الشخص بأفكار أكثر إيجابية عن ذاته وعن العالم. ما يجري محوه لا بد أن يكون جزءا مهما وحيويا من الذاكرة، ومن المفترض أنهم يقومون باقتلاعه من جذوره. سيصبح الشخص معافى من كثير من آلامه، وربما أكثر راحة وتفاؤلا وإيجابية، لكنه سيعيش بعاهة مستديمة، مقصوص الذاكرة. وكنت قرأت مرة، أن شعراء مصابين بالاكتئاب، نضبت موهبتهم الإبداعية، وتوقفوا عن كتابة الشعر، بعد معالجتهم من الاكتئاب، لقد تعافوا ولكنهم فقدوا ذاكرة متأججة بتجارب الألم الملهم، ومخيلة معذبة كانت الذاكرة رافدا أساسيا لها. على الأرجح أن تلك العلاجات، لا تقتلع الملامح والتفاصيل، لكنها تنزع عنها دلالاتها الانفعالية، النفسية والعاطفية، تبقى الصورة في الذاكرة، لكنها غائمة محايدة، ولعلها ميتة.

 

المرض عرض من أعراض اكتظاظ ذاكرة شقية واشتداد آلامها، مشاهدها تحوم في الرأس، وتطوف بأعضاء الجسد الذي يتذكر، وكلما تذكر زادت وطأة الألم، لكأن العلة في ذاكرة، يكاد المرء أن يجد شفاء في فقدانها، ولكن أي شفاء إذا ما فقد الشخص كينونته؟ كيف يمكنه تعريف ذاته إذا فقد الجزء الأهم من هويته الإنسانية، المحطات والخبرات والأحاسيس، لحظات العيش في الزمان والمكان، خليط الفرح والألم، الوجوه والتعابير، تحولات روحه وعقله، وارتعاشات سؤال الهوية، ودرجات لامعة ومتربة وعاصفة صعدها حتى بلغ سؤال الذاكرة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى