ثورة مصرية روائية في مواجهة الربيع السياسي

الجسرة الثقافية الالكترونية
*ابراهيم فتحي
من الملاحظ في الكتابات الروائية المصرية أثناء العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين -كما جاء في كتاب «الرواية وتحرير المجتمع» لأماني فؤاد- وجود تطوير كيفي في الرؤية والتقنية وانصهارهما معاً في إبداع متميز مشوق إلى عالم إنساني أرحب حرية وعدالة. وتطلق الباحثة على هذا التطوير الكيفي ثورة أدبية في الكتابة الروائية. وهذه الثورة هي محاولة الروائيين تناول الوجود فكرياً وفنياً على نحو مغاير يتسم بالجسارة ومحاولة الخروج على الرؤى الفكرية والتقنيات المتحجرة.
فالروائيون يعبرون عن رؤاهم في إهاب غير نمطي يستهدف عالماً أكثر تعبيراً عن توق الإنسان إلى الحرية وإثارة أسئلة الوجود المشتبكة بالواقع على نحو خاص بفردية كل مبدع وطريقته التقنية المتميزة. وقد تتسم تلك الطريقة بالتجريد والتشظي أو الغرابة والفانتازيا وبدرجات من شعرية السرد الذي يهدف إلى المغايرة أو إلى مصارعة التاريخ واللغة. والروائيون جميعاً يتحرون تفكيك النظرات السابقة إلى الأشياء وزعزعتها وتقويض المبادئ الجاهزة في الإبداع الروائي. وهم لا يصورون الواقع في انعكاس مرأوي، بل يجرى الاشتباك مع مناطق وبؤر توتره ونسج عوالم متخيلة تخيلاً مجنحاً بواسطة أساطير الموروث الشعبي، الفولكلور وطقوسه وعوالم التصوف.
وهذه الثورة الأدبية تختلف عن الثورة السياسية، ففيها مساحات مشتركة بين التقنية التقليدية والتقنية الجديدة ودفع المتلقي إلى المشاركة في العملية الإبداعية. وليس في الثورة الأدبية ثنائيات إقصائية هي من طبيعة الثورة السياسية. أما الثورة الأدبية فهي خروج على التيبس ودفع دماء متجددة تحقق التدفق من دون أن تقوم بهدم البناء وتقويضه.
فالجديد يفسح لنفسه مكاناً يتجاور مع بعض القديم متجاوزاً إياه معبراً عن شوق إلى ما لم يصل إليه الإنسان بعد. وتقدم السرديات الجديدة تفتحاً على الآخر ومنظوره وثقافاته. وترى فؤاد أن من أبرز ملامح ثورة التقنية التحرر من سلطة التابوهات والثقافة الراكدة ومن الالتزام بها، فهذا الالتزام أقرب إلى الإلزام. ولا ترصد الباحثة في كتابها تيارات بالمعنى الجمعي بقدر ما ترصد ثورة أدبية يتميز فيها كل نص وكل روائي على حدة، من دون التقيد بجيل ينتمي إليه، وما من فصل بين الإبداع وقضايا الواقع وهو ما شكَّل سمة في روايات العقدين الأخيرين. وكان من ضمن أسبابه استمرار الاستبداد زمناً طويلاً ونزعة المحافظة والتعتيم على العقل والوجدان. وكانت للإبداع قدرته على خلخلة القيود من خلال تقنياته الفنية التي تمكنه من المراوغة والترميز وخلق عوالم موازية للهروب من المساءلة والتعبير عن عوالم مأمولة، ولم يكن محايداً أو صامتاً أو راكناً إلى التقية والتروي بل ناقش المسكوت عنه. وترجع جرأة المبدعين على التجريب إلى تعبيرهم عن ذواتهم في المحل الأول وخصوصية ثقافتهم وأوضاعهم الاجتماعية والفكرية في علاقة جدلية مع خلخلة اليقينيات ومحاولة الخروج من أسرها وتقويض سلطة المثال الكتابي المستقر وانفتاحهم على الثقافة العالمية واطلاعهم على الآداب الغربية واللحاق بأحدث ما في الإبداع الروائي من اتجاهات. وما سبق ركزت فيه الباحثة على العقدين المبكرين من القرن الواحد والعشرين، وإن كانت نظرتها المدققة تصلح للإحاطة بتعرجات التطور التاريخي للرواية المصرية في مراحلها كافة.
فعند دراسة السرد ما قبل الروائي والسرد الطبيعي ثم السرد الحداثي باعتبارها فئات من التقنيات وطرائق استعمالها وتفسير وظائفها وصراعها في الرواية المصرية نلاحظ أن هذا الصراع لا يصل إطلاقاً إلى منتهاه، فما من نموذج سردي يتحقق في نقائه الكامل، كما يتميز الصراع بين القديم والجديد على رغم ارتفاع الأصوات وتطاير الغبار في مجال النقد بوجود مراحل انتقالية بينها وندرة القطيعة الحادة، فقد يتداخلان.
تجليات الخطاب
وتناقش الباحثة تجليات الخطاب الديني الرسمي والشعبي في الرواية المصرية، وكيف حوَّل بعض الوسطاء الدين في الوعي الشعبي من دعوة محبة وحرية وتسامح إلى سلطة قمع وكبت استغلها المتاجرون سياسياً ليمارسوا نوعاً من الحصار والولاية على العقل والوعي، وكبت خيارات الروح الإنسانية الحرة. وهنا ينبغي توضيح الفارق بين الدين في المفهوم النقي وضرب من التدين كممارسة سياسية مجتمعية تعمل على الاحتكار والفرض. والخطاب الديني ذو حضور بارز في بنية النص الروائي، ولكنه ليس الحضور المباشر التقريري، بل يتجسد في تصوير الشخوص ورؤاهم ودوافعهم وتفسيراتهم لما يعن لهم من تساؤلات، وثمة تداخل بين ما هو ديني وما هو سياسي أو مجتمعي. وقدمت الباحثة معالجة نقدية لأربع روايات اتفقت في اتخاذ الدين أرضية جامعة تظهر على مسرحها سلوكيات الإنسان وتوجهاته ويفصح من خلالها عن أفكاره ورؤاه وشكه ويقينه.
والمبحث الثاني هو التقنية وسؤال الواقع الافتراضي والفانتازيا ويتناول دراسة نقدية لخمس روايات في صدارتها «كل أسبوع يوم جمعة» لإبراهيم عبد المجيد، وتمثل التقنية الروائية في توظيف الواقع الافتراضي داخل بنية السرد وعلاقة الإنسان بالإنترنت كعالم موازٍ غير مرئي يراوغ بين الظهور والاحتجاب، وبين الشخصنة والتجريد كاشفاً عن إشكاليات تواصل الإنسان في العصر الحديث وحاجاته ونزوعه إلى التحقق في عالم متشظٍ، يهدر ذاتيته خلف عالم متنوع من الشاشات الباردة التي لا تتيح حياة حقيقية، بل حياة تنزع إلى العنف أو الغربة عن العالم الحقيقي. فهو يصنع سردية خاصة روائية تعتمد على آليات وتقنيات شبكة الإنترنت وألفاظها التي شاعت في وسائل التواصل واللغة ليصوغ عالماً روائياً شديد السبك والإبداع.
ثم تأتي ثلاث روايات أخرى ذات طابع فانتازي («المفاتيح» لمي صالح و «عالم المندل» لأحمد عبداللطيف و «روح محبات» لفؤاد قنديل) أي من الخيال والموروث الأسطوري والإعلام. وليست الفانتازيا سرياناً هذيانياً لفكرة مفارقة للمعيش، بل هي صياغة للواقع بشكل رمزي والتعبير عن الصورة بالمثال والتمرد على الملموس بالنزوع إلى التجريد والتمرد على دوغمائية الواقع القمعي. فالفانتازيا نمط من الكتابة يجنح للحرية من وراء النظام متخذاً من التقنية الروائية المرنة الرحبة وسيلة للبوح وإنتاج القيمة والإفصاح عن الذات وتفعيل رؤاها في عالم لا يصغى لصوت الفرد إلا قليلاً.
سؤال التاريخ
والمبحث الثالث هو التقنية الروائية وسؤال التاريخ ويتناول بالتحليل النقدي روايات عدة منها «الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس» لطارق إمام، و «باب الخروج» لعز الدين شكري، و «مطر على بغداد» لهالة البدري. والرواية عند الباحثة فن سردي تخيلي يحاول تغيير مواضعات الحقائق المقررة تاريخياً والتمرد عليها بالنظر إليها على أنها تكريس لأيديولوجيات الماضي الزائفة الراسخة التي استهدفت تأصيل النفعية والاستبداد لصالح الأقلية التي صاغت هذه الحقائق المزعومة ودوَّنتها.
فالرواية تاريخ تخيلي، تاريخ رمزي يتشكل في رحم تاريخ موضوعي حقيقي، ويظل الروائي بين الافتراضي والموجود بالفعل قادراً على تثوير الراكد والمستور، يضيف إليه ويحذف منه إما لتبني رؤية استشرافية تتطلع إلى المأمول فيه أو التنبؤ بما سيكون، كما في «باب الخروج». فالتاريخ كما يراه الروائي وهماً ينبغي أن نجيد اختراعه وليس نصاً مقدساً. وإذا كان التاريخ هو في نهاية المطاف وجهة نظر المؤرخ المرتبطة بإيديولوجيته، بأفكاره وانحيازاته، ألا يكون من حق العمل الفني دحض وجهة النظر تلك لتقديم تصور آخر يمزج بين الواقعة التاريخية والخيال والتحليل الخاص. وتمثل تلك الرؤية للتاريخ أداة ثورة وتحرر، كما تكون التقنية أداة تجاوز وتحرر من قيد المسطر تاريخياً الذي قد يكون من المتخيل أنه يقدم الحقائق. وفي رواية «مطر على بغداد» نحن بإزاء كتابة المرأة للتاريخ بوصفها كائناً من المزعوم أنه أكثر حساسية وأرهف عاطفة بالقياس إلى الرجل. ويعاني ذلك الزعم من التعميم على كل النساء ويعتبرهن نسخة مكررة.
والمبحث الرابع هو التقنية الروائية وسؤال اللغة والسرد، فلا تتبلور الأفكار والتصورات عن العالم إلا في حضن الكلمات. ويظل هذا النص الرئيسي في «إلياس» لأحمد عبداللطيف هو اللغة حيث تمارس العبارات استعراضاتها بفقه جديد يتسق في هذه الحالة مع إنسان عدمي منسحق مهزوم. وبعد عدمية إلياس تتناول الكاتبة رواية «تانغو وموال» لمي خالد وترصد التقنيات التي تجعل السرد يشبه سيمفونية متفاوتة الإيقاعات مضفورة مع موال شعبي وإنشاد صوفي.
والنص عابر للتقنيات الأدبية بمفردها وبامتزاج مع تقنيات الموسيقى. ثم تمضي الكاتبة إلى رواية أخرى هي «هكذا يعبثون» لأمينة زيدان، وتتداخل فيها التقنيات القصصية مع تقنيات المونتاج السينمائي من فلاش باك ولقطات مقربة مضخمة أو بعيدة مشيرة إلى تنوع وثراء التقنيات عموماً وارتباطها بمشكلات الواقع والسعي إلى تطويره وتحريره.
وتتجاوز الدراسة نمطية النقد التقليدي وآلياته المحفوظة وتنتقل إلى إبداع موازٍ يستشكف الإمكانات الفكرية للنص من خلال تقنياته الجمالية.
المصدر: الحياة