جبريل ينجح في رسم شخصية المرأة المصرية

د. زينب العسال
“نجمة المساء تأتي في الموعد”؛ أحدث إصدرات محمد جبريل الروائية، بهذا العنوان يواصل اختيار عناوين شاعرية، مثل: ذاكرة الأشجار، بوح الأسرار، حكايات الفصول الأربعة، الشاطىء الآخر، زهرة الصباح، مواسم للحنين، مقصدي البوح لا الشكوى، ذاكرة الأشجار، حكايات الفصول الأربعة، البحر أمامها، إلخ.
ولعلي أضيف ملاحظة أخرى، تتصل بما أراه جديداً على أغلفة رواياته السابقة، فالغلاف كأحد عتبات النص، يعتمد على الحسي، الأيروتيكي، حيث تصدر الغلاف رجل شاحب الملامح، أو لنقل مطموس الملامح، الفتاة الفاتنة التي احتلت مساحة الوجه، بدت دقيقة التكوين، فاتنة الملامح، وكأنها راقصة باليه، وخلف هذه اللوحة تناثرت النجوم متلألئة، وكأننا أمام مزاوجة بين ما هو شاعري روحي وبين ما هو حسي، صحيح أن الرجل تصدر الغلاف، لكن المرأة احتلت الرأس مصدر الفكر والإلهام، فهل عبرت الرواية عن ذلك؟
الغلاف يعد مشهداً سردياً يستبق الأحداث، ويمهد لها، الشاب مازن الذي يعاني اضطهاداً من قبل رؤسائه، فلا يحصل على ترقيته رغم أنه متفانٍ في عمله، ليس بدافع حب العمل والاجتهاد، وإنما لأنه يخشى اللوم والمحاسبة والمواجهة بالتقصير، الشاب المهزوز الشخصية يعاني فوبيا الاضطهاد، ويتشكك فيمن حوله، شخصية تعيش على هامش الحياة، إنسان لا يترك بصمة في هذا العالم المتشابك.
يخاف التعبير عن رأيه صراحة حتى لا ينال عقاباً من قوى لا يعرفها، كبلت إرادته منذ الطفولة مع كثرة ما تلقاه من أبويه من أوامر ونواهٍ، واستجابة لهما، صار يحيا كما يريد المحيطون به، وليس كما يريد هو لنفسه.
عالمه ينحصر بين البيت والعمل والجلسة المسائية في المقهى، لا يخالط أحداً، وإن استشعر ونس ودفء الآخرين.
يصادق سعد، شخصية مغايرة تماماً لمازن، فهو يمتلك جرأة، تصل لحد التهور، يقترب من البوهيمية، يصادق الفتيات والنساء، يعيش حياة عابثة، لا يحب القراءة أو الاطلاع، لكنه الشخص الوحيد الذي اطمأن إليه مازن، يبثه هواجسه ومعاناته، يستجيب لنصائحه، وإلى مغامراته غير المحسوبة، ظل مشدوداً إلى هذه الشخصية، كما ظل مشدوداً إلى عالمه الداخلي، عالم مربك ومرتبك، يفتقد العافية النفسية.
هذا العالم الذي يظل فاعلاً في حياة البطل، تزداد تأثيراته عندما يطلب منه رئيسه كتابة ملاحظات وتقارير عن زملائه، وتسجيل المكالمات التي يستمع إليها، ويواجه رفضه بمزيد من الاضطهاد والتعنت، مما يدفعه إلى طلب النقل من الإسكندرية إلى سنترال جسر السويس.
هكذا ينتقل مازن من مدينته وعالمه وأهله في بحري بالإسكندرية إلى القاهرة، تحديداً مصر الجديدة، لنعيش معه متنقلاً بين مقر عمله في سنترال جسر السويس وشوارع مصر الجديدة، اختلاط الطابع الإسلامي بالطابع الأوروبي، القباب العربية، الأعمدة الحجرية الهائلة الواصلة بين الطوابق، الشبابيك العالية، الشرفات الدائرية، والمستطيلة، والمربعة، والمقرنصات.
يسير في منطقة الكوربة بمبانيها ذات الطراز المعماري المميز، ويستقل مترو مصر الجديدة، ويأكل في الأمفتريون، ويسير بمحازاة سور نادي هليوبوليس، يستأنف السير حتى شارع الخليفة المأمون، أو يمشي في شارع الميرغني الطويل، ويشتري طعامه من كشك على ناصية الطريق، ويأخد المترو في تفريعاته الثلاث: النزهة، عبدالعزيز فهمي، الميرغني.
هذه الشخصية التي تبدو هشة مسطحة من الخارج، تعاني عقداً نفسية تظهر مع لقائه مصادفة بمها التي تعمل خادمة لأسرة، تقطن في الدور السادس من البناية التي يقطن بها، تنبثق الذكريات، يخرج المارد من القمقم الذي ظل حبيساً لسنوات، ظن مازن أن سره دفن وطوته السنوات، لماذا عادت منار الطفلة الصغيرة، التي ملكت خيال ووجدان المراهق، ماذا وجد في جسد الصغيرة ما يغريه في النظر إلى تكوينها الجسدي، ها هو يستعيد ما حدث، بكل ملابساته: قلقه وخشيته من افتضاح أمره بأن تفشي منار سره لأبويها، ماذا سيكون رد فعلهما؟ وردود أفعال الجيران؟، كيف حدث هذا؟ وهل ستضيف الصغيرة لما حدث من عندها؟
أسئلة ظلت حائرة لا تجد إجابة، غير أن الأيام التالية أجابت عن هذا القلق والخوف، تحاشت منار النظر إليه، عبرته بسرعة، وكأنها لا تعرفه، لم تزد العلاقة مع الطفلة غير النظر لهذا الجسد الممد الصغير أمامه، لم يكن مازن يريد علاقة كاملة مع أية امرأة، إلا أن كوثر المرأة الجريئة، تقتحمه بتحريض من صديقه سعد، فيحدث ما لم يكن يتوقعه أو يريده.
عبر استرجاعات فلاشية سريعة، أو مونولوج داخلي، نتعرف إلى علاقات مازن بمنار وكوثر وفردوس، وهي الفتاة التي تمنى أن يتزوجها، لكنها رفضته، بعد أن تعرفت إلى شخصيته بكل نقائصها!
تتسع الرؤية، من متابعة معاناة مازن الشخصية النفسية والعاطفية والوجودية إلى معاناة الوطن والشعب، معاناة تتناثر عبر حوارات المهندس عاطف غيث، وفيكتور المطيعي وثروت الزيات، والسيد البدوي صالح عما عاناه الوطن من فساد، ونهب، وسلب، ومحاولة للتوريث، ودكتاتورية نظام مهترىء انفصل عن شعبه، ظل مازن يستمع دون أن يشارك، يجتر ما يراه حوله.
سيظل العالم الداخلي سر مازن الذي يحمله، وكأنه يحمل العالم على ظهره، إنه سيزيف، الذي يحاول أن يعتلي الجبل لكن تفشل محاولاته إلى ما لانهاية، هكذا بدا عالم مازن إلى أن تظهر جنات المرأة الاستثناء.
نجح جبريل في رسم شخصية المرأة المصرية، هي امرأة بسيطة، إلا أنها اكتسبت من الخبرة الحياتية العميقة قدرة على تقدير الأمور، وتمتلك وعياً فطرياً بإدراك المتغيرات، ومعرفة عميقة بالنفس الإنسانية، فقد تعاملت مع أزمة زوجها في عدم الإنجاب بحكمة المرأة المصرية المحبة، وعندما تعرض للظلم والقهر، حاولت التخفيف عنه، ظلت محبة له بعد وفاته، لديها إحساس فياض بالأمومة، تمارسها من خلال رعايتها لابني أختها تسافر لهما في بنها تطمئن على تحصيلهما الدراسي، ملامحها أقرب للذكورة، لكنها تمتلك جمالاً داخلياً يشع على المحيطين بها.
هذه المرأة ستكون جارة لمازن، تقطن في الشقة المقابلة لشقته، جعلها القرب المكاني قريبة إلى مازن الذي يعاني الغربة والاغتراب النفسي:
“لم يعد يمر يوم دون أن ألتقيها، تضغط على الجرس لأفتح الباب، أو تدفع الباب إن كان موارباً، وتدخل في أي موضع. لم تبلغ صداقتنا حد أن أبادلها الزيارة، أطرق بابها، فتأذن لي بالدخول، أتوقع طرقاتها في أى وقت”.
هي كامرأة لديها فضول التعرف لشخصية مازن، لماذا ترك بحري، وانتقل من الإسكندرية إلى القاهرة؟ من هو سعد؟ لماذا لم يتزوج؟
مع الأيام توثقت العلاقة بينها وبين مازن، لكنها حرصت على وجود حاجز غير مرئي لا يتجاوزه:
“شيء ما تبدل في داخلي، شيء غامض، لا أدري كنهه، جذبني إليها، منعني الخجل، ولعله الخوف، من أن أصارحها بما في نفسي”.
تحلل جنات شخصية مازن بكلمات سهلة بسيطة: ضعف إرادتك يمنعك من رؤية الحقيقة، إذا لم تغامر فلن تحصل على ما تريد.
حاولت جنات أن تبث الثقة في نفس مازن، تبصره برحابة الحياة، وضرورة السعي للترقي في الوظيفة، والمطالبة بحقوقه، وتكوين أسرة وأبناء، والانفتاح على الآخرين، وترك الهواجس والشعور بتآمر الآخرين.
تعلو نبرة الاحتجاج والحديث عن الظلم والفساد ومعاناة البشر، كل هذا يتزامن مع أزمة مازن، يتفجر الموقف، تندلع الثورة، ويخرج المارد من القمقم ليعبر الشعب عن إرادته التي شملت كل المدن المصرية، ويقوم مازن – لأول مرة – بفعل إيجابي، يلتحم بهؤلاء المتظاهرين في ميدان التحرير،” كل ما حولي كأنه طاقة بخار مكتومة، تهم بالانفجار”.
حين بدأ المتظاهرين – من حولي – في الفرار إلى الشوارع الجانبية، جريت بآخر ما عندي، لا أعرف إلى أين؟
كعادته لا يفصل جبريل عالم شخصياته الروائية عن الأحداث والوقائع السياسية، فالثورة ماثلة أمامنا، مشاهد المظاهرات في ميدان رمسيس وامتدادات ميدان التحرير، خطاب تنحي مبارك، إطلاق النار على المتظاهرين، ذلك كله جاء مضفوراً في لحمة العمل الروائي، بما يعانيه مازن، بل يزيد من الهواجس والخوف والخشية والملاحقة التي استشعرها، وظل أسيراً لها.
في لحظة تبين عن اليأس القاتل، اتخذ قرار الانتحار، رغم أنه قرار سلبي، فإنه لم يستطع تنفيذه، فشخصيته تعاني الشحوب والهشاشة والضعف، وتنتهي الرواية بنهاية مفتوحة على العديد من الاحتمالات، ونظل – رغم الغيم – نترقب نجمة المساء التي لم تخلف موعدها أبداً.
(ميدل ايست أونلاين)