جدل المثقف والسلطة في مسرحية «القلعة والعصفور»

الجسرة الثقافية الالكترونية
عادل ضرغام
تحضر السلطة في مسرحية «القلعة والعصفور» للكاتب المصري أحمد سراج (دار إبداع/ القاهرة) في شكل بارز، سواء كانت سلطة راسخة بأنساقها ورموزها المعهودة، أو سلطة مناهضة بتكويناتها الهشة الطوباوية. وفي تجلي السلطة الراسخة ثمة إصرار على أنها سلطة جزئية وليست مكتملة، بسبب خلل في سلم تراتبها؛ إذ إن لها منطقها الخاص في تشكيل هذا التراتب في إطار الفاعلية والتحكم؛ فهي سلطة مجزأة ومشدودة إلى سلطة أعلى قد لا تكون حاضرة على المستوى المباشر مثل «شيخ التجار» فهو في ظل التراتب الوظيفي أقل من الملك، ولكن هذا النسق الظاهري يكشف عن نسق أكثر عمقاً، من خلال الانفتاح على الخارج مثل «مدينة الذئاب الغربية».
يتوسل أصحاب هذه السلطة بإسدال عناصر التقديس في مجموعات جزئية ومسميات مثل (المجلس المقدس) ويسدلونها على الشخصيات التي تمثل هذه السلطة، وهذا التقديس ليس مقصوداً لذاته، وإنما المقصود منه صناعة مسافة تتيح لهم الاختلاف وتبرير القيادة. وهذا قد يشير إلى جزئية أخرى مرتبطة بوضع البشر في سياق يسير وفق خطة مقدسة؛ وإلا أصابتهم اللعنة مثل جزئية السيطرة على القلعة، كأنها سر من أسرار الأبدية التي تتكشف في النهاية عن كذبة صيغت بمهارة لتثبيت النسق. هناك – أيضاً – إسدال الجهل المشفوع بالبراءة؛ فلهذه السلطة – كما يتجلى من نص المسرحية – قدرة على تجهيل البشر العاديين المنضوين في إطارها، وفي هذه المسرحية مشهد يعبر عن براءة مشفوعة بجهل، كما تجلى على لسان الجندي الأول في حديثه عن الرجل (كل ما أرجوه أن أقتل هذا الخائن) فالسلطة تحاول أن تجعل الفرد العادي جاهلاً وذلك من خلال تغييب السؤال: (جئنا لنقتل لا لنسأل).
إن قراءة مشهدَي البداية والنهاية – بعيداً من المشهد الطوبوي المتخيل في النهاية – تكشف عن أن السلطة المهيمنة في أي لحظة من لحظات العصف التي تمر بها بمرور الأزمنة، تحتاج دائماً إلى أن تثبِّت أركانها، ولن يتم هذا إلا بوجود مثقفين لهم دور – ولو كان شكلياً – في تثبيت أركان هذه السلطة في جبروتها الممتد. والمسرحية في بنائها الممتد ألحَّت على بناء قسمين من خلال أوصاف شبه متقابلة ومتناقضة؛ ففيها تطل ثنائية السلطة والمعرفة؛ فالمعرفة التي تتيح للسلطة المهيمنة لأصحابها الوجود هي معرفة هشة مدجنة، لا تستطيع استشراف القادم أو تحليل الآني، ويمثلها في هذا السياق الحكيم والعرَّاف؛ فقد تخلى كل منهما عن دوره الحقيقي لارتباطهما بالحاكم الفعلي (شيخ التُجَّار)، المنفتح على الارتباط بالخارج، فهما لا يقدمان معرفة حقيقية، وهما من الشخصيات التي اختيرت بعناية، لتقديم إكمال لعناصر الصورة الشكلية، وليس رغبة في الوصول إلى معرفة.
يأتي «الرجل» الذي لم يذكر له اسم، كاشفاً عن معرفة مفقودة لم ينتبه إليها أحد ولكنها موجودة داخل كثيرين مشابهين له؛ ومن ثم فإن غياب التسمية مقصود والحقيقة أو المعرفة التي يقدمها الرجل أو يتحدث عنها ليست حقيقة فلسفية، بقدر ما هي حقيقة مستندة إلى معرفة البشر بالحوادث؛ فهو يبلغ شخصيات تنتمي إلى السلطة المهيمنة بأشياء لا يعرفونها عن مقتل آبائهم، كما حصل مع كبير الوزراء وكبير الجُند. وبحضور هذين النوعين من المعرفة المشكّلة من جانبين: جانب المعارض وجانب المدجَّن، هناك حالة تغييب متعمدة للمعرفة التي يمثلها الشاعر وقد جاء ذكره في مشهدين أو في مرتين أو في لحظتين من اللحظات التي تحتاج فيها السلطة المهيمنة إلى مساءلة الذات ومراجعتها. وكان التعبير عنها دائماً بتحفيز الجُند؛ فالشاعر شبيه العصفور في حريته، شبيه المغني، شبيه المثقف الذي لا يغيب صوته، جاء حضوره واقعاً تحت سيطرة نسق مهيمن يفقد صوته ووجهة نظره حضورهما.
علاقة المثقف بالسلطة لا تخلو من بطش دائم إذا ظل محافظاً على خصوصية صوته ورأيه وقيمتهما، يتجلى ذلك إذا قارنا بين وضع الحكيم والعرَّاف من جانب، والرجل الذي يحمل الحقيقة من جانب آخر. ويتجلى ذلك – أيضاً – بين العصافير الذهبية والعصافير المُدجَّنة.
قد يشعر القارئ أن ثمة عدداً من الرموز، وأن بعضها يتسم بنوع من الهشاشة؛ انطلاقاً من رؤية سياسية متنوعة، وبخاصة في ظل حضور جزئيات توجه القراءة من الإهداء والمفتتح، وكل هذه الرموز تحتاج إلى وقفة متأنية، لا للوصول إلى دلالة يمكن أن يتم الاتفاق حولها، وإنما للإشارة إلى وجود نوع من التأويل يمكن أن يكون مقبولاً، وخصوصاً عندما نتوقف عند عدد من الرموز في هذه المسرحية. وأول هذه الرموز القلعة، فالمتلقي لا يستطيع منذ البداية التخلص من الثقل التاريخي للدلالة الخاصة بها، لكنّ النص المسرحي، على رغم أنه يعطيك الإيحاء بوجود هذه الدلالة، يكشف عن قلعة خيالية تمَّ تشكيلها بعناية لتكشف مساحات الزيف أو التدليس الذي يُمَارَس لإثبات الحاجة الملحة لسلطة ما، ترتبط بتشكيل القيد واستمراره. كذلك؛ لو توقفنا أمام رمز الرجل؛ فهو في إطار التلقي المبدئي يكشف عن الفرد العادي البسيط الذي يمتلك الحقيقة أو المعرفة، ولكن هناك إضاءات واستطرادات تقدمها المسرحية على لسان بعض الشخصيات وليست على لسانه؛ فيشعر المتلقي أن هذا الرجل من خلال الصفات التي يسدلها الآخرون (تتحلق حوله العصافير)، (له قدرة على الطيران)، يأتي وكأنه يُوجِه أعيننا نحو حاجة البشر العاديين إلى صناعة البطل وتشكيل ملامحه التي تخرج به عن إطار العادية إلى إطار الأسطورية.
في تشكيل السلطتين؛ المهيمنة والناهضة، تقابلات عدة تتم على مستوى الشخصيات، وعلى مستوى الرموز. فعلى مستوى الشخصيات نحن أمام جانبين؛ الأول يمثله (الملك – قائد الجند – شيخ التجار – كبير الوزراء – الحكيم – العراف) وفي الجانب الآخر (الرجل – الفتاة – الطفل – العصفور)، وفي إطار هذا التقابل يمكن أن نجد رموزاً تكشف عن دلالة قد تشكَّلت سابقاً، وأصبحت دلالاتها جاهزة، مثل دلالة الفتاة أو الطفل أو العصفور أو مدينة الذئاب الغربية.
إن هذا العمل يكشف عن كاتب مسرحي مهموم بالواقع، بل يشعر القارئ أنه متجذر في هذا الواقع، ولكنه على رغم هذا التجذر والارتباط مشدود إلى عمق الفن وسطوة حضوره وفاعليته بوصفه المُشكِّل الأول للفكر وللإيديولوجيا.
المصدر: الحياة