«جرح في الحائط» للقاص عبد اللطيف الزكري: تمثلات الجرح وبلاغته التصويرية

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عبد الرحيم الشاهد

المصدر / القدس العربي 

يصور القاص عبد اللطيف الزكري في مجموعته القصصية «جرح في الحائط» وعلى امتداد خمسة عشر نصا قصصيا الواقع وما يزخر به من صراعات وتوترات، وما ينجم عن ذلك من ألم وفرح وانكسار وخيبات ونجاحات، وقد أنجز ذلك بلغة تلامس القيم الإنسانية والأحاسيس الداخلية، حيث يرصد القاص دواخل الشخصيات وحالاتها النفسية المتوترة وعلاقتها بالوجود وبالآخر النظير.
يعكس عبد اللطيف الزكري في مجموعته الواقع المعيش في قالب قصصي متقن في بنائه ممتع في لغته. تحمل شخصيات المجموعة جراحا وندوبا تحاول التغلب عليها بشتى الطرق، وللجراح في المجموعة مستويات عدة يعبر عنها القاص بأساليب تصويرية تكشف جماليا عن وجوهه المتعددة من حيث الصياغة اللغوية والتعبيرية، ترميزا وتلميحا وتوصيفا. إن أهم سمة تنتظم نصوص هذه المجموعة هي سمة العزلة، فقصة «ضوء القمر» مثلا تطرح سؤالا رئيسا مفاده يقول: ماذا نفعل حينما ينتابنا إحساس بالفراغ؟ فالسارد الشخصية لما غادرته صديقته انتابه إحساس جارف بالوحدة، فقال: «بقيت وحدي في المدينة أقضي النهار في القراءة والتجوال» ص3. ولما أنهى مكالمة هاتفية مع صديق له عاد إلى الصالون لتكملة قراءة كتاب العزلة، فالقصة تصوير لوطأة الحياة ولتسارع وتيرتها التي تفضي إلى الإحساس في لحظات يأس وتدمر بالخواء والوحدة. وفي قصة «الفراغ» يتحول الإحساس بالوحدة إلى ما يشبه الاختناق، ويغدو بذلك معادلا موضوعيا للحمق، فبطل القصة بحث عما يفعله، لكنه في كل مرة كان يحس بالفراغ، فراغ مادي، فراغ معنوي، المطبخ فارغ وقنينة الغاز كذلك، وأمام هذا الإحساس القاتل قرر في الصباح أن يذبح هذا الفراغ تماما كما يذبح خروفا. هذا القتل الرمزي منح البطل ارتياحا نفسيا ولو مؤقتا.
إن ما يميز هذه المجموعة هو ما تبوح به شخصياتها وهي في لحظات وحدة وعزلة، ومن ثم انغماسها في تأمل ومراجعة للذات واعتراف بالذنوب والخطايا كما في قصة «السر الثقيل» حيث يبدأها السارد بمخاطبة ذاته قائلا: «تجلس كعادتك وحيدا، المقهى مزدحم وأنت وحيد في ركن منزو» ص 35 .
لقد ظل هاجس الإحساس بالذنب يطارد الشخصية المحورية جراء غدره بإنسانة اعتقدت أنه سيتزوجها فمنحته نفسها، هذا الحدث تمخض عنه إحساس دفين بكون تلك الفتاة ستنتقم منه بالسحر، وهو ما جعله يحتاط من كل شيء، وقد تحول ذلك إلى ما يشبه لعنة الغدر وهي تطارده في كل مكان، الشيء الذي جعله ينهار في المقهى، حيث أجهش بالبكاء أمام اندهاش الجميع، ولم يخفف عنه بعضا من ذلك العبء إلا بعد أن أفضى بسره إلى الشخص الذي رافقه إلى البيت.
في المجموعة أيضا رصد جميل لحالات من الحب العذري الطاهر، كما في قصة «محطة مشهورة» وقد تجلى في صورة تصوير جميل ولغة شاعرية لرحلة السارد عبر القطار من مراكش إلى طنجة، متقاسما الجلوس في المقصورة مع مجموعة من الأشخاص، فاختار الصمت وانزوى في ركن قصي رافضا أن يشاركهم لعبة الورق لتزجية الوقت، مفضلا إخراج رواية «أفراح القبة» لنجيب محفوظ والانغماس في العوالم التي يجد متعة في التماهي معها، وبينما هو منغمس في خضم تلك العوالم يشرد قليلا منصتا إلى هدير عجلات القطار متأملا الوجوه والفضاءات مستحضرا صور حب رومانسية قديمة «كنا نكثر من تبادل القبلات على الفم وكانت هذه نشوتنا العليا» ص 26.
وبعد ذلك يخلد إلى النوم لفترة ثم يصحو فإذا به في محطة القطار بطنجة، فاستحضار الذكريات هي أيضا محطة يلوذ إليها الإنسان ليسترجع الأنفاس ويجدد المسير، وما توظيف الذكريات إلا لخلق الإحساس بالسعادة المفتقدة من جهة وللتغلب بواسطتها على بؤس الحاضر وقلق الشعور بالوحدة، وقد تم ذلك بصياغة أسهمت في إثارة الأحاسيس والعواطف الدفينة.
يمتلك القاص عبد اللطيف الزكري حسا ساخرا يوظفه في قصصه بشكل فعال، كما في قصة «الإرث» حيث تبرز مفارقة غريبة حيرت الراعي إدريس، وذلك بعد ملاحظته غياب الكلب بريقع ثم المعزة الرمادية، وبينما هو في الغابة رأى بريقع يحرس المعزة الرمادية التي وضعت مولودة صغيرة، فرح إدريس بذلك وثمن وفاء كلبه، ثم قال: «هذه المعزة الصغيرة مشتركة بيني وبينك يا بريقع» ص23. بعد مدة تناسل من المعزة نسل كثير، ومات الكلب بريقع بعد سقوط سور قديم عليه في يوم ممطر، احتار إدريس في أمر التركة فاستفتى فقيها في الأمر، فأشار عليه بمنحها لشخص يقتسم السكن مع أصهاره، وبعد البحث وجد شخصا اسمه العياشي تنطبق عليه تلك المواصفات فمنحه تلك التركة. تتخلل القصة مواقف هزلية تمتزج فيها السخرية المرة بالأسى والحزن على نحو يعبر عن واقع معيشي بائس، وتحمل الأسماء دلالات موحية حيث العياشي البائس تنزل عليه السعادة فجأة بفضل وفاء الكلب بريقع وحسن نية الراعي إدريس.
تمنحنا قصص المجموعة متعة ذهنية لاعتمادها على تصور فكري يعالج قضايا مجتمعية لها علاقة بجوهر الكائن الإنساني، كما يجد القارئ نفسه أمام لغة قصصية لها مميزات خاصة، حيث يمتزج فيها الحس الشاعري بجمالية التصوير القصصي، لغة ذات دلالات إيحائية رمزية أكثر منها واقعية، فلنتأمل هذه الصورة القصصية الشاعرية من قصة «جرح في الحائط»: «بتلات نرجس انغرست للتو في دماغي، جذورها تعود إلى طفولتي في البراري البريئة …امرأتي الآن تضع حبقا مفعما بالزهور الحمراء» ص 58. إنه تصوير شاعري للحزن وبوح ومناجاة للذات والسوسن والنرجس والزهور الحمراء علها تداوي جراحه وجراح آخرين قهرتهم الحياة ونكبهم الدهر.
تحتفي قصص مجموعة «جرح في الحائط» بالإنسان المنعزل من حيث هو ذات متأملة في الكون والوجود، يفلح القاص في تشكيل رؤاها عبر صيغ تصويرية يمتزج فيها الخيال بالواقع، وتنفلت الشخصيات من إسارها وتخرج عن صمتها لتبوح بما يختلج في صدرها من أحاسيس تتحول إلى أسئلة جريئة تجاه المجتمع الذي تعيش فيه، تلك الأحاسيس التي برع القاص في التقاطها وتحويلها عبر اللغة إلى تشكيل جمالي متماسك البناء والأسلوب والرؤية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى