جمالية القص في ‘اوشام سرية’

الجسرة الثقافية الالكترونية
سفير أكرم
في نصوص هيام الفرشيشي جمالية ورموز تسمو عن الحديث اليومي الاتصالي. وأعني بذلك ان الكاتبة ترفض ان يكون الادب مفهوما من الوهلة الأولى بل الأدب عندها اختزال وتخف ولعب بكل الوسائل الفنية ومسخ للشخصيات وضرب في التضاريس والطبيعة ومخلوقاتها، بل إني أرى أن كتابتها سرد غريب هدفه ليس الإخبار بقدر ما هو سفرة خيال وصور وتفكير وهذا لعمري ما يتمناه كل قارئ محترف أو هاو مهوس بالقراءة.
في قصة ‘البحث عن المعنى المفقود’ تتحدث الكاتبة عن صحفي عاش حياة مضطربة أوصلته إلى عتبات الجنون. ولما ندرس الخطوط البيانية لهذه الحياة نجد أن المصير الذي وصلت اليه الشخصية عادي وحتمي، إذ ينشأ الطفل على قتل الطيور التي يحرمها من الرجوع الى أوكارها فتيتم فراخها بكل قسوة. من هنا نجده بعد ذلك يذوق من نفس إناء المرارة التي أذاقها للكائنات الضعيفة فتموت أمه فتتلقفه زوجة أبيه بالظلم وأباه بالقسوة فيرى العذاب بألوانه.
هذا الكسر الأول في حياة هذا الإنسان سيجر كل الخيبات، كل الانتكاسات، كل القذارة، كل التنازلات، وبالتالي السقوط في هاوية الانكسار والضعف والعجز وعدم التميز. وكل هذا نراه يتجسم في تلك الحفرة التي كان عليه حفرها بحضور الراقصة العاهرة وجلاديها الذين لا يعرفون الرحمة.. فيصبح كل العرق الذي بذله والأتعاب التي تكبدها والإرهاق الذي أصابه عبارة عن محاولة لرفع حجر كبير الى قمة الجبل، فيصبح “سيزيف”, آخر كلما رفع حجره تهاوت به بسرعة اكبر، فيبذل هذا المجهود العبثي الذي لا مرمى منه الا التلاشي والتردي.
الماسأة مصيره حتما كما صورتها الكاتبة اذ أن هذا الرجل عوض أن ينبت شجرة مسيرته شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء نجده يقتلع تلك الشجرة ولا تراه الا شياطين آدمية في شكل عاهرة محاطة برجالها عديمي الرحمة حتى نخاله يحفر قبرا لذاته التي ستقبر حية وتؤبنها الأبالسة.
هي إذن مسيرة مرعبة لصحفي كان من المفروض ان ينبت الزهر في الغابة ولكن كما رأينا انتهت حياته بما يرمز للتهديم. هذا الصحفي وان درس الصحافة في العاصمة وتتلمذ على أساتذة من رجال الاعلام ونهل من تقنيات هذا العلم ولكنه لم يكن قادرا على الإفادة لأن الخدوش والكسور التي واكبت مسيرة حياتة كانت بالكثرة بحيث أسقطتها في الرذيلة والخساسة والبؤس وهذه علل لا دواء لها.
هذا الجو البعيد عن الحياة يعكس شعور الكاتبة الحالي وهي ترى بلادها تعيش إرهاصات الثورة التي لا تفتأ ترينا من العهر ألوانا ومن الخيانة ألوانا ومن الكذب ألوانا. اذن هذه المسيرة الملوثة بأدران الخبث البشري وقسوته التي أسندتها الكاتبة الى هذا الصحفي ليست إلا صورة لبورتريه مجتمعي كامل يشعرنا في بعض الأحيان بالقرف والاشمئزاز.
“طائر الاحياء الخلفية” للكاتبة هيام الفرشيشي، هي لوحة من الكلمات والجمل والصور الحزينة. المفردات المعبرة عن الألم والضياع وحتى الخوف متفشية في النص بغزارة الى درجة أن القارئ ينال الشيء الكثير من هذا الجو المكفهر الذي يهيمن على الأحداث والأمكنة والشخصيات. وكأننا بالكاتبة أرادت ان تذهب بكنه اليأس والتبرم الى نقطة لم يصلها كاتب قبلها.
أردت ان اضع اصبعي على كلمة، على حرف، على فراغ، في القصة يشعرني بانتصار النفس وتفوق الانسان على الموجودات، ولكن بدون جدوى. هل تكون الكاتبة غير راضية على الحضارة التي هي فيها، أتراها تتعذب في أرضية اكتسحها المترو بدورانه اليومي لدرجة الغثيان، وبنفس الميم هل ان “الملاوي” والاستهلاك الفوضوي الذي اصاب الشعب امتص جمال النظام والاناقة والتعفف.
اشعرت الكاتبة القارئ بأن الزمن عوض أن يذيقنا إشراقات لم نرها, فقد تلبد أمامنا الأفق بألوان داكنة لم نكن نتمنى أن تعترضنا في طريقنا. هذا فعلا موجود في القصة. “السحب السوداء كالليل الدامس”، “الظلام الذي أحمله بين جوانحي”، “‘ابتسامة سوداء”.
هذه الطفرة من المعاناة والتبرم تجعل الكاتبة تفر الى صور الطفولة أو إلى الطبيعة كما وصفها عشاق الطبيعة في العهود الغابرة علّها تستقي أكسجينا يرجع لها انسانيتها المهددة: “أن يكون المنزل على هضبة مرتفعة وتمتد امامه ربى الاخضرار وقد نبتت عليها الاعشاب” لقد ارتمت كل الكلمات والصور في بحر العفوية الفنية. لم يكن للكاتبة الا الهروب الى الوراء بكل ما يحتويه من حنين غامض.
هو في الحقيقة كساد يشعر به الفنان بصورة أعم حين يكون الوسط الذي يعيش فيه ممل فارغ صبياني فاقد للسمو متكاسل عن الفعل الرفيع. ولكن هذا لا يعيق هذا الفنان عن التعبير اذ اننا نلاحظ كثيرا من القوة في هذا النص، ولكن لا يمكننا أن نطلب منه القهقهة في زمن الموت ولا الانشراح في أمكنة منقبضة. فالكاتب فنان ينصبغ بمحيطه ويتلوث بأدرانه ولكن فقط تسمع صوته عاليا لأنه يبقى الأخير الذي له كلام يقوله.
لذلك أقول بعد قراءة قصة الكاتبة هيام الفرشيشي إن الزمان والمكان والكائنات في هذا السرد ليسوا متجانسين بل وكأنهم أصابتهم قنبلة غاز الخردل. أي هناك اضطراب في العالم الموصوف، وكل هذا جعل الجمال يغيب ومنطق العيش يتهالك. أما الذي يريده كل عقل نير وكل انسان شغوف بالحياة هو أن “الحديقة الكبيرة التي تتفتح فيها الورود وتبني العصافير أوكارها على سقف الأشجار تفرش أجنحتها وهي تطرب السامع بشدوها”.
هيام الفرشيشي أديبة مبدعة هذا على الأقل ما لا أشك فيه. وقلمها يتجول في عالم اجتماعي انساني نفسي متشابك تاريخي تضاريسي جغرافي حقوقي إجرامي، هناك ايضا ما هو فني رمزي. وكل هذا يذهب منحى تراجيديا فيه تأمل وسفر أكثر من الراحة والتفكه، أليس الأدب سفينة تبحر على أمواج تتصارع فيختلط فيها النفسي باللغوي بالشعري وبالسري والمعلن، ماذا يبقى للعلمي أو على الاقل الخيال العلمي؟
الأديب أبعد من ذلك فهو يرى أبعد ويدرك قبل زمن، يملك حدسا عجيبا، يكفي أن يلتقط صورة بسيطة للواقع ليحولها لحياة معقدة يعجب القارئ من تشابكها ومن تعقيدها.
المصدر: ميدل ايست اونلاين