جمال أبوسمرة .. شاعرية مدهشة وجمالية متفردة

أحمد الشافعي
بداية من العنوان “أنا وغيري كتير” نجدنا أمام نص مختلف جدا لشاعر يعد علامة في شعر العامية ليس في الصعيد وحده، بل في مصر كلها. إنه الشاعر جمال أبوسمرة.
تبدأ رحلة المتلقى مع نص يجذبه بموسيقاه المتميزة ورؤيته العميقة وطرحه الواعى للعديد من الأسئلة والأفكار المتنوعة والعلاقات المتشابكة بين الذات والآخر، بين الشاعر والمحبوبة/الوطن.
استخدام الضمير “أنا” في العنوان يوحي بذاتية التجربة ويقرب القارىء من العمل ويجعله أكثر التصاقا به، ويجسد التجليات الكامنة في ضمير الشاعر ومدى التصاقها مع آلام الذات الشعرية الخاصة في نسيج فني مركب ومتعدد الدلالات.
غير أن الشاعر يؤكد أنه ليس وحده الذي يحمل تلك المضامين التي سيجدها القارىء في النص؛ بل إن الكثيرين غيره يشتركون معه “أنا وغيرى كتير”. أولئك الذين حملوا هموم الوطن ولكنهم لا يجدون واقعا يتفق مع أحلامهم ويعانون من قسوة الحبيبة / الوطن عندما تهجرهم وتبحث عن آخر وتلقى بهم بعيدا كما يذكر الشاعر فى نهاية قصيدته.
وعندما ندخل إلى القصيدة نجدنا أمام بناء فني رائع. لوحة راقية رسمتها ريشة فنان مبدع قدير يصور بعبقرية تجربته الداخلية وعلاقته بالآخر. المحبوبة / الوطن .. وما يقاسيه من وجع التهميش والعزلة والبحث عن الهوية.
يحاول الشاعر طرح كل هذه الرؤى بإسقاط دلالاته الشخصية على آخر يشبهه. قد يكون هذا الآخر هو الأنا الأخرى للذات كما يقول علماء النفس. ويضع الشاعر على كتفي هذا الآخر كل معاناته وتجربته الشخصية والنفسية في جدلية أيديولوجية بين نفسه والآحر الذي يشبهه، وقد تساقطت سنوات عمره التي لا تجد من يحميها. إنه لا يتحدث عن السنوات بحساب العمر إنه يتحدث عنها بحساب الأحلام التي ضاعت ولم تجد من يحميها ويحققها.
من شدة اغتراب الشاعر وجلده لذاته يرى أنه حتى ملامحه قد سقطت منه وتاهت “وسط حواري كتير”. وتشبيه صعوبات الحياة بالحواري تشبيه بليغ يتناسب مع شاعر عامية متمكن مثل جمال ابوسمرة. فكما أن الحوارى تتسم بالعشوائية والتعقيد والشتات، فإن صعوبات الحياة التي هزمت أحلامه تتسم بذلك.
وفى اللحظة التي اعتقد فيها الشاعر أن حبيبته ستفرح به، رآها تحوله إلى مجرد ذكرى “علبة ملفوفة ف ورقة جرنان” بل إنها حتى لم تكلف نفسها عناء الاحتفاظ بتلك الذكرى. بل ألقت بها على ناصية شارع مسدود “انسداد الشارع يحمل دلالة غياب الأمل لدى الشاعر”. وجعلت كل من يراه “يحط إديه على خده”.
وتتميز قصيدة جمال ابوسمرة بمساحة الصدق في البوح والتنامي السردي للأفكار والأخيلة والصور، وجذب المتلقى للإسراع خلف كل جملة شعرية بحثا عن استكمال الصورة الدلالية الشاملة للنص بأكمله حيث يذخر النص بالصور التي تجمع بين البساطة وعمق الدلالة “بتدور على واحد يشبهني”، “سنين عمالة تسقط منه”، “عمال بيلملم ف سنينه الواقعة”، “وقعت مني ملامحي”.
وتأمل أيضا تلك الصورة التي تمثل لوحة متكاملة تجسد مدى مأساوية المشهد الدرامي عندما يتحول المحبوب على يد حبيبته إلى مجرد ذكرى تلقيه بأقصى ما تملك يمينها “حطتني ف علبة / لفتني ف ورقة جرنان ورمتني بعيد / على ناصية شارع مسدود / كل اللي يعدي ويقراني / يحط إديه على خده”.
أخيرا .. نحن أمام نص يمتزج فيه الهم العام بأحزان الذات ومشاعر الاغتراب ليس عن الواقع فحسب، بل الاغتراب عن الذات نفسها.
لا أخفيكم أنني اجتهدت في البحث عن ملاحظات أقرص بها أذن صديقى جمال أبوسمرة لكني أعترف بأنه كان رائعا في هذا النص تماما ولكن ربما أهمس في أذنه بأن الجملة كانت مضطربة فكريا في مطلع القصيدة فلم يبد واضحا على من يعود الضمير في جملة “طالعة شيطاني”.
كما أنه كان يمكنه أن يطيل نفسه قليلا فالقصيدة تحمل قماشة قابلة لتناول أكثر. حتى إنني فوجئت بانتهاء القصيدة، وأنا بعد لم أشبع من مضامينها الدلالية المختلفة. ووجدتني أنا أيضا “باحط إيدى على خدي”.
(ميدل ايست اونلاين)