جمال «الدريكيش»غافل عن الدمار السوري

الجسرة الثقافية الالكترونية
*هيفاء بيطار
المصدر: الحياة
دفعني الفضول إلى زيارة «الدريكيش»، قريــة تبعــد نحــو ساعتيـــن عن مدينـــة اللاذقيــة. كنــت مع شلة من الأصدقاء مدعوّين عند الصديق منير شحود الذي كان أستاذاً لمادة التشريح في كلية الطب بجامعة تشرين في اللاذقية، قبل أن يُفصل من عمله ، ويتفرغ لعمله في الترجمة والكتابة والعنــاية بأشجار الزيتون، في منزله الجميل في الدريكيش.
وقد يكون أهم سبب دفعني لتلبيـة هذه الدعوة هو الفضول أولاً، ثم الرغبة بلقاء الأصدقاء، إذ لم يبق لنا في سورية من عزاء سوى شلة من الأصدقاء يدعم واحدنا الآخر، في وطن أشبه بسفينة تغرق ولا تجد من ينقذها. أردت أن أجري اختباراً على نفسي، أسميته اختبار الحزن، لأن الحزن هو أول شيء أعيه كل صباح مثلما أختم به مسائي. حزن على وطنٍ أحبّه وأشهد يومياً على تدميره الوحشي والأهوال التي يتعرض لها أبناؤه منذ خمسة أعوام.
لم أصدق أن الطبيعة فاتنة إلى هذا الحد هنا. كلما اقتربت من «الدريكيش» كان انبهاري يزداد بالأخضر الذي يلمع تحت أشعة شمس سخية. وصلنا إلى «الدريكيش» حيث حقول من أزهار شقائق النعمان تمتد بجوار حقول من المارغريت الأبيض والأصفر. هواء «الدريكيش» نقي إلى حد يجعلك تتنفس بعمق كما لو أنك تريد أن تطرد الهواء الفاسد المعشش في رئتيك منذ سنوات. هواء يعبق بروائح الزعتر البري والزهور والماء الذي عُرف عنه قدرته على تفتيت الحصى. تشتهر «الدريكيش» بجمال طبيعتها بحيث يتدفق فيها شلال ساحر، بقربه «حنفيات» يشرب منها الناس العابرون. كنت أهمس لنفسي طوال الوقت: «أهذه سورية أيضاً؟».
ككل سوريّ، لم أعد أشعر بالوطن إلا عبر مشاهد القتل والدم والصراع و «داعش» والجيش السوري والمؤتمرات المهزلة التي تُعقد من أجل حل الأزمة السورية. صار لسورية لقب مأساة القرن. نعم، هي ليست مأساة عقد أو عقدين، لكنني – رغماً عني – اعتدتُ الحياة في وطن أشبه بسفينة تغرق بينما تقف كل دول العالم على الشاطئ تتفرج ولا أحد يهب لنجدتها. لذا، وجدتني مُبلبلة ولا أعرف كيف أتعامل مع موجات الفرح الغامر التي أهدتني إياها طبيعة «الدريكيش» الساحرة، غابات وجبالاً بعيدة لا تزال مكللة بالثلوج، شلالاً وطاحونة مياه، وبساتين، وأهل حلب الشهباء الذين نزح كثيرون منهم أيضاً، إلى «الدريكيش» وأنعشوها بصناعاتهم والمحال التي افتتحوها من ألبسة وأطعمة… كنت أحس بفرح غامر وبشيء من خجل لأنني سعيدة، كأنه من المُعيب أن أفرح وعلى بعد كيلومترات ثمة أناس يموتون وبيوت تُدمر، ونشرات أخبار تعلن «انتصارات» دائمة. فالكلّ منتصر، والكل يضع علمه فوق جبل من الجثث ومن الحُطام. ومع ذلك، أخذت أغبّ الهواء وأشعر بدفقات من السعادة. الطبيعة غافلة عما يحصل في سورية، فهي مُبتهجة وعاشقة والبراعم حُبلى بالأمل، بينما المتقاتلون غافلون أيضاً عن الطبيعة وسحرها لأنهم لا يرون سوى البندقية. سمحتُ لنفسي أن أستعيد طعم السعادة وأن أفتتن بالهدوء وحفيف أوراق الأشجار وعطر الأرض الذي يدوخني، أحسست أن للصمت والهدوء صوتاً أشبه بالهمس.
وبعد الغداء، ذهبنا في جولة في «الدريكيش» ولفتت نظري كلمة حُفرت بالسكين على طلاء سيارة: «مُعارض». سألته: «لماذا ثمة من يترك تلك الكلمة محفورة في طلاء سيارته». ضحك ولم يرد، كانت جولة ساحرة وأنا أهمس لنفسي طوال الوقت: «هذه سورية أيضاً، هذه سورية أيضاً». ولكن، يبدو أن الاعتقاد الشعبي بأنّ بعد كل ضحكة بكاء صحيحة. ففي طريق العودة، وعند مدخل «الدريكيش» استوقفني نصب رخامي عملاق بارتفاع ثلاث طبقات تقريباً، ويمثل دفتي كتاب مفتوح وقد كتب عليه بالأسود العريض، وبدا تزاوج اللونين الأبيض والأسود فاتناً أيضاً.
طلبت من أصدقائي أن نتوقف لنقرأ الشعر المكتوب على النصب الرخامي، ولم أشك للحظة في أن المكتوب شعر، فمن يرقى إلى مستوى فتنة «الدريكيش» سوى الشعر؟ رفعت رأسي عالياً، فهوى قلبي لأنّ المكتوب لم يكن شعراً. لقد تاهت فجأة روحي المُخدرة والمفتونة بجمال الطبيعة وسحر الصمت. فعلى مساحة النصب الرخامي كانت أسماء الشهداء (شهداء «الدريكيش» والقرى المجاورة) مكتوبة على هذا النصب الرخامي. أصابني دوار، وأحسست أنني أهوي في بئر بلا قاع، وأنّ علي أن أتوازن كما تتوازن ملعقة على حافة كأس.
مئات الشهداء هم من شباب «الدريكيش» الذين كان من المفترض أن يكونوا في هذا الربيع الدافئ مع حبيباتهم وعائلاتهم وأولادهم الذين لن يولدوا لأنهم استشهدوا، ولأن صورهم المعلقة على الجدران أخذت أمكنتهم، ولأن حقول شقائق النعمان امتصت دماءهم، والمارغريت الأصفر امتص مرارة روحهم. بل لأن سورية هي مسرح الجنون ومسرح اللامعقول. وعلى يمين الصرح، تمتد مقبرة الشهداء. وبعضهم يعتبرهم من المحظوظين لأن في القبر جثة أو بقايا جثة. ففي سورية يتبخّر كثر من الشبان، ولا يبقى منهم أثر. أصبح السوري المحظوظ هو من يستلم جثة ابنه أو بقايا من جثته، ولا يهم سواء كان الشاب من الجيش أو من المعارضين. هناك، تذكرت رواية ساراماغو الرائعة «أسماء» التي لا يغدو فيها مهماً أن يُوضع اسم المتوفى على قبره، بل يمكن أن يوضع على قبر آخر، فتختلط الأسماء. فكرت في أن قبور هؤلاء الشهداء هي تماماً مثلما قرأت في رواية ساراماغو، لأن وطناً يحُب أبناءه لا يحول طاقة الشباب إلى موت، ولا يعطي شبابه بندقية بدلاً من كتاب ووردة. سألني أحد الأصدقاء فجأة: «هل تريدين تصوير النصب»، قلتُ لا.
كم أشفقت على نفسي إذ سمحت لفرح عابر بأن يتسلّل إلى قلبي. فرح أشبه ببرق شقّ السماء الحالكة نصفين، ثم اختفى. كيف لي أن أتخيل المكتوب على النصب شعراً؟ لكنّ شعر المتنبي كان قد تفجر في ذاكرتي فعلاً. فكرتُ في أن الشهداء يكرمون كما يقول في قصيدته: «جود الكرام من الأيدي وجودهم/ من اللسان فلا كانوا ولا الجود».