جياد أري دي لوكا٫٫ بئر الماضي

الجسرة الثقافية الالكترونية

*لينا هويان الحسن

المصدر: السفير

 

كل تلك الأشياء التي يفوتنا الكلام عنها، وكل المشاعر المضنية الغامضة، يتكلم عنها أري دي لوكا في روايته « ثلاثة جياد» الصادرة حديثا عن دار الجمل، بترجمة لنزار آغري.

صدام بين الوعي واللاوعي، صراع بين التذكر والنسيان، مواجهة بين الحاضر والماضي، بين امرأة اسمها «ليلى» تريده ان يقع في غرامها، وامرأة أخرى كان اسمها «دفورا» وقع في غرامها عندما كان يتسلق جبلا في الارجنتين. هكذا تبدأ حكاية الرجل الايطالي الأصل والذي لحق بـ «دفورا» الى جبال أميركا الجنوبية الوعرة.

أوصاف موجزة، غنية بصورها، تفصيلية، دقيقة، يُقدمها لنا رجل في الخمسين من عمره، ويعمل بستانيا في الجنوب الايطالي. يتناول طعامه في مطعم يرتاده البحارة، وفجأة تظهر شابة في الثلاثين من عمرها لتحرك دفة القصّ في رواية بطلها مسكون بمشاعر القلق حول محاكمة يمكن ان تحدث في اية لحظة.

يقضي النهار في بستان يعتني بالاشجار والزهور، يلوذ بالصمت طوال الوقت، وبين الحين والآخر توقظه ذكرى من الماضي، او اغنية، او غيمة عابرة تزيح الشمس من طريقها، وتعطي ظهرها للظل. يدور في الحديقة بحثا عن مكان يغرس فيه شتلة شجيرة تفاح، يجد فسحة، فيغرسها، يهيل التراب عليها، وينظر الى اغصانها الغضة وهي تحاول ان تحتل مكانا لها.

تتشكل الشخصية عبر افكاره، عبر مشاعره الخفية، عبر ذكرياته الأليمة وهاجس سؤال وجودي أصيل: هل بإمكان المرء ان يفهم نفسه وان يعرف شخصيته وفق رؤيته للعالم، وفق آرائه، او وفق ايديولوجيته؟! هو الذي أرغم على تشكيل خطة حياته وفق أيديولوجية فُرضت عليه.

ينجح المؤلف أري دي لوكا بخلق صورة شعرية عن عالم لاشعري. عالم السجون والمعتقلات والمطاردات والاغتيالات، بينما الارجنتين تنتف من الوجود احد اجيالها، مثلما تفعل امرأة مجنونة بشعرها، تقتل ابناءها، في فترة امتدت من عام 1976 وحتى عام 1982 خضعت خلالها الارجنتين لحكم عسكري ديكتاتوري أنهكت جيلا بأكمله واختفى ما يقارب أربعين ألف شخص، غالبيتهم من الشباب. سقطت الدكتاتورية في أعقاب الاجتياح الفاشل لجزر الفوكلاند – المالفيناس – حصل هذا في ربيع عام 1982، هذا المدى الشاسع من المساحة والحوادث له علاقة مباشرة بما يحدث لشخصيات هذه الرواية: (يقتلوننا جميعا، نحن الذين ننتمي للتمرد نقفز من مخبأ إلى آخر، تنبعث منا رائحة الخوف في الشارع، تتبع الكلاب الرائحة وتعدو خلفنا، هكذا هي اميركا الجنوبية، ايام طويلة من دون صباحات لا يتبقى منا سوى قلة قليلة، نرمي أنفسنا في المعركة مثل وحوش ضارية. نمضي نحو طلقات الرصاص، دون أن نحني قاماتنا لأنه سيان إن بقينا على قيد الحياة أم لا، نحن أسماك في مستنقع ضحل.)

عاش حياته مطاردا لأنه اضطر أن يحمل السلاح ذات يوم وأن يَقتل، هو الضحية له ضحاياه. هنالك نوافذ تفتح فجأة له، لكن دون أن تتيح له الهرب، فقط التذكر، خياره المقلق الوحيد. تحديدا تلك اللحظة التي انتزعت فيها دفورا من بين ذراعيه لتُرمى من طائرة عسكرية وهي مقيدة الذراعين والرجلين، في مياه المحيط. ذلك المصير الذي لقيه أبناء جيل كامل.

يمكننا استخدام مفردة «قلق» بالمعنى ذاته الذي منحه هايدغر لهذه الكلمة، لتكون قلق رجل مطارد بذاكرته. يبدأ السرد عندما تقع فتاة ليل اسمها «ليلى» في غرام رجل خمسيني غامض، يثير فضولها وتريد أن تكشف أسراره: ( مهنتي هي ان اجعل الرجال يتكلمون، ان أُخرج الاخبار من رؤوسهم، معك اصغيت من دون هدف اصغيت وتعلمت ان احب الحياة المكتوبة على وجهك). نجحت «ليلى» باستنطاق البستاني المولع بقراءة الكتب المستعملة، لأن (الصفحات حين تقلب مرات عديدة وتمسدها اصابع كثيرة تستقر في العيون بشكل اعمق، ولأن كل نسخة من الكتاب تملك أرواحا عديدة). مغرم بعالم الأشجار هرب من عالم البشر إلى عالم النبات ووجد ضالته بين اشجار بستان يملكه مخرج سينمائي.

يخبرنا بطل الرواية أسرارا وحده اكتشفها عن عالم الشجر: (الاشجار تحتاج الى شيئين: الغذاء من تحت التراب، والجمال من فوقه. إنها مخلوقات صارمة، ولكنها طافحة بالبهاء. الأشياء الجميلة بالنسبة لها هي الهواء والضوء والعصافير والفراشات والنمل والنجوم، فتمدّ اغصانها كي تصل اليها، الجمال هو الذي يدفع النسغ ليصعد في الاشجار الى الأعلى، لأن الجمال وحده من يقاوم جاذبية الأرض في الطبيعة، لولا الجمال لماتت الرغبة في الأشجار.)

«ليلى» أغرمت برجل تعرف تماما أنه تركة من حياة أخرى، بينما هو يتلمس جزءا من جسده حيث اخترقته طلقة رصاص، ولم تأخذه معها. ويشمّ رائحة دماء رفاقه، الدم الذي جفّ منذ زمن بعيد. يعيش حياته كإنسان سجين حدوده الجسمانية الزائلة، يطرح سؤالا وجوديا: أليس هناك الكثير من مقومات الانسان كفرد في المجتمع، قادمة من العالم الخارجي قبل وبعد ولادته؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى