جيرار أغسيروغيرا و «سلطته» التشكيلية

الجسرة الثقافية الالكترونية
*أسعد عرابي
المصدر: الحياة
ما سرّ إستقطاب الكتاب النقدي الجديد لجيرار أوغسيروغيرا للاهتمام الاستثنائي في الأوساط التشكيلية والإعلامية النقدية في فرنسا؟
الجواب الأشد بلاغة يرتبط بأهمية دور هذا الناقد منذ نصف قرن، وسلطته على مستوى فناني الكوكب، إلى جانب توأمه بيير ريستاني. لذلك، ما إن غاب الأخير منذ أكثر من عشر سنوات عن الساحة بسبب وفاته المباغتة حتى انفرد «جيرار» بعرش الأهمية الأولى في تأثيره النقدي.
لا أدري ما هي الأسباب الباطنة في التشويش المقصود على جيرار بمقارنته بريستاني صديق العمر؟ يتفوق «جيرار» عليه بحيويته الإنفجارية، فإذا عرفنا ريستاني في عام 1961 من خلال إشرافه على تيار «الواقعية المحدثة» (أول تيار فني فرنسي ما بعد حداثي)، وعرضه في نيويورك. ثم تبادل المعارض مع «البوب آرت» ما بين باريس ونيويورك، ترتبط أهميته بأهمية هذا المنعطف التاريخي، رغم أن كتابه الذي يشرح فيه تنظيره لهذا التيار الذي جمعه بنفسه، صدر بعد عام 1962، متناقضاً مع أسلوب العديد من فناني كوكبة هذا التيار، فالتداخل مع البوب أرت أوصلنا إلى أن سيزار مثلاً وهو نحات من جماعة «الواقعية الجديدة» أصبح قريباً من البوب آرت من خلال عملقة تمثال باهما المصبوب بالبرونز وبالعكس فإن روشنبرغ (من جماعة البوب آرت) ارتبطت معارضه وتطور أسلوبه بموروث «الدادائية» الباريسية المحدثة.
شاعت شهرة ريستاني من الأهمية الإنعطافية لمبادرته الأصيلة، وحصد بالتالي نجومية الرواد الذين جمعهم بمستوى سيزار وآرمان وكلين.
تتفوق شهرة ريستاني على زميله في حينها ولكن وفي المقابل فإن تقاسم جيرار مسؤولية أكبر التظاهرات العالمية معه يرجع إلى فضل مؤلفاته ومكتبته «ما بعد الحداثية» (التي تتجاوز الثمانين) وهي تؤرخ وتقيّم أبرز منعطفات وفلسفة وفنانين «ما بعد الحداثة» الأوروبية ـ الأميركية. ينطبق هذا على كتابه الجديد وقد بدأ ينفد من المكتبات رغم أن تاريخ صدوره لا يتجاوز الأيام (نهاية العام 2014)، صدر عن دار باريس ـ ماكس شاليل. وأقيم حفل توقيعه في أمسية التاسع من أكتوبر في غاليري معروفة هي «بيرتي».
يجمع العنوان المزدوج: «الأهمية المزدوجة» في الكتاب، فالعنوان الأكبر يشير إلى دعوة جيرار إلى «أطلاق حرية النقد الفني».
ترجع الأسباب الأعمق في هذه الدعوة إلى شخصية جيرار أغسيروغيرا التي تشكلّت منذ نعومة أظفاره على العصيان. فهو من مواليد برشلونة 1936 من أب يتميّز بقوة تأثيره السياسي ومعاداته لفرانكو والفاشية. اضطرت العائلة أن تهاجر بسبب الاضطهاد السياسي، فاستقر جيرار منذ تفتحه الذوقي الأول في باريس قلب الثقافة التشكيلية العالمية، ليصبح بالتدريج أحد أهم النقاد العالميين (وإن لم يكن أبرزهم) بخاصة بعد وفاة ريستاني الذي نعثر في الكتاب على ذكره وصوره مع جيرار مرات. حمل جيرار معه إذن الإباء القطلاني من المدينة التي خرّجت أبرز المعاصرين الأسبان المعادين للفاشية من بيكاسو وحتى تابييس ومن ميرو حتى دالي.
لم يقم ناقدنا بأي مهادنة أو تسوية أو تسويف مع أي مؤسسة رسمية فنية، بخاصة أنه على قناعة بأن دور سلطتها يعتبر دوماً سلبياً وميالاً إلى الإنتهازية والبيروقراطية والمافيوزية، وحسبما يقول: ابتداءً من مؤسسات وزارة الثقافة إلى متحف الفن المعاصر في بومبيدو مروراً باتحاد النقاد أو التجار وأصحاب المجموعات والوسطاء وأصحاب صالات العرض وبالتوافق أحياناً مع الفنانين المتواضعي الموهبة أو النقاد المرتزقة.
يتهمه البعض في أنه ساهم في أن يزعزع سمعة بعض المؤسسات الراسخة.
يكشف دفاعه المستميت عن سيزار مثلاً (لعله أبرز نحات في فرنسا باتفاق النقاد) مثالاً ساطعاً على تعارضه مع المزاجية البيروقراطية أو الشللية في المؤسسات. ذلك لأنه لم يصل سيزار حتى اليوم إلى «متحف الفن المعاصر» في «مركز بومبيدو» ولم يخصّص له رغم وفاته أي معرض شخصي لتراثه فيه.
تتجه مشاريع أغسيروغيرا لهذه الأسباب إلى القطاع الخاص أكثر من العام، بما فيه التظاهرات الكبرى، فقد تسلّم مهمة كوميسير المعرض البانورامي «للفن الأميركي المعاصر» في القصر الكبير ثم والمعرض الإستعادي العام الإسباني بمناسبة: «مدريد عاصمة الثقافة» عام 1992 وكان شريكاً مع ريستاني في أكبر معرض على مستوى الأرض وقد اقيم في كوريا الجنوبية بمناسبة أولمبياد 1988.
وانفرد بمسؤولية «سمبوزيم» النحت العملاق في تلك المناسبة. وهو يعتبر المختص الأول في هذا الميدان. أشرف على عشرات السمبوزيات في اليابان ودول آسيا الخاصة بالأوابد النحتية. لنتخيل حجم معرفته بالفنانين الذين يعرضون كل مرة بالمئات بدعوة شخصية منه. كما انفرد بمسؤولية معرض أولمبياد برشلونة 1991.
نصل هنا إلى السطر الثاني من عنوان الكتاب: «من حي سان جرمان إلى سيوول».
يرسم ناقدنا مسيرته المهنية ما بين سبعينات كثافة الطلب من صالات العرض الكبرى والفنانين من أجل مقدمة الكاتالوكات أو الكتب، فنشاطه كان متمركزاً في عاصمة العاصمة التشكيلية، أقصد «حي سان جرمان دي بري» الذي عانق أبرز صالات العرض في تلك الفترة (تراجع اليوم لصالح حي ماريه وبالذات شارع في دو تمبل). ثم يشير إلى أكبر معرض جرى على الكوكب الأرضي في عاصمة كوريا الجنوبية بمناسبة الأولمبياد العالمي الذي مر ذكره. فقد تقاسم مسؤولية إدارته مع بيير ريستاني. وبين النقطتين مئات التظاهرات والمعارض الخاصة المتنقلة التي إبتدع آليتها في تلك الفترة، إنحيازاً منه إلى ديموقراطية الفن المعاصر وجماهيريته.
أحببت بدوري في أكثر من مناسبة أن يطلع على الفن العربي المعاصر، فاقترحته أكثر من مرة في لجان التحكيم (رئيس اللجنة في إحدى دورات بينالي القاهرة)، وكذلك الأمر مع بينالي الشارقة كمحاضر وفي المغرب كذلك، أما كتابه اليوم فالنقاد العرب في أمسّ الحاجة مع الفنانين للاطلاع على نصوصه البالغة العناية والتخصّص. وذلك بسبب دقة المصطلحات النقدية «ما بعد الحداثية»، بخاصة في ميدان «منماليزم النحت الأبدي»، والمفاهيمية والبرفورمانس و «الفن المتصحّر» وهو نحت «اللاند آرت» في صحراء نيفادا الأميركية بمثاله الساطع النحات الأكبر «هايزر» وغيره.
ندرك بعد هذه الجولة لماذا اعتبر الكتاب حدثاً تشكيلياً بارزاً اضافة الى كونه حدثاً نقدياً في فرنسا.