حبّ بوهيمي في «الحالة صفر»

الجسرة الثقافية الالكترونية
*ابراهيم فرغلي
المصدر: الحياة
يروق لي تأمل لغة الشعراء حين يغامرون في كتابة نص سردي، مراقباً ومتتبعاً الحلول اللغوية التي ينتهجونها، والكيفية التي يتعاملون بها مع الوصف السردي، والمناطق التي يحقنون بها اللغة بالشعر. بهذا المنطلق شرعت في قراءة رواية «الحالة صفر» (دار ميريت- القاهرة) للشاعر عماد فؤاد، واللافت انتهاجه لحالة سردية لها إيقاع رائق، ووقوعه على لغة تناسب هذا الإيقاع. إيقاع «الحالة صفر» تلك التي يصل إليها المخدَّر فلا يعرف ما إذا كان نائماً أم يقظاً، أيحلم أم يطفو فوق الماء.
اللغة التي جسدت نبرة صوت الراوي المغترب أو المهاجر في تسجيله للغرام بميشيل، الشابة البلجيكية، التي تقاسمه السكن والحب وتعاطي المخدر، وتشاركه الشعور بالـ «حالة صفر»، بحيث يبدو الواقع جزءاً من الخيال والخيال واقعاً. الشابة لا تعرف والدها، لأن أمها باولا، البوهيمية، قضت حياتها متنقلة بين المدن والعشاق، هي أيضاً لا تعرفه!
الحياة البوهيمية، والتنقل من مكان لآخر، بسرعة التنقل ذاتها بين عشّاقها هما ما ورثتهما ميشيل عن أمها باولا. وبسبب هذا التنقل المستمرّ لم تعرف لنفسها وطناً غير تلك الأم غريبة الأطوار. وربما بسبب هذه الأم وحياتها العبثية قررت أن تهرب، ليس من الأماكن والعشاق مثل أمها، بل من نفسها. أن تبحث باستمرار عن الحالة صفر. أن تسعى باستمرار لكي تضمن أن تعيش غالبية أوقات حياتها في تلك الحالة الغائمة من الوجود، واللاوجود، الوعي واللاوعي، تداعي الذكريات وهروبها، وتداعي الأفكار أيضاً ثم انفلاتها من دون اكتمال. كأنما كانت تريد أن تهرب من وجودها.
ولهذا ربما شكّل البحث عن النبتة هاجساً لديها نجحت في إشراك الراوي معها به. مع اختلاف المنطلقات، فبينما كانت هي تبحث عن الحالة صفر لكي تنسى وجودها، فإنه كان يبحث عن الحالة نفسها لكي يقتسم معها الحياة، وينسى كل شيء آخر. ولذلك فحين يرعيان نبتة الحب معاً، سوف يرعيانها بالحماس والقلق أيضاً. لكنّ رعاية كل منهما لنبتتهما المشتركة تنطلق من دوافع مختلفة، تشبه تلك المنطلقات التي توجه علاقة كل منهما بالآخر.
وعندما يفقد الراوي ميشيل، في النهاية، يتضاعف إحساسه بالخسارة ويعاود البحث عن ذكرياتهما عبر الحالة صفر التي تشاركاها على امتداد زمن عشقهما بعضهما بعضاً. وعبر الصور التي جمعت بينهما، وبقيت صوراً مقتنصة من إطار الزمن، أو عبر تداعيات الذاكرة. لكنها عادة ما تصبح جحيماً: «تستطيعين استعادتها بالمخيلة لكنك لا تستطيعين الرجوع إلى لحظة وقوعها، تحرقك بنارها في الحالتين، وكنت أظن أنني بعد كل هذه السنين أصبحت صانع زجاج عجوز ومدرباً يعرف كيف يتفادى اللسعات من كتلة الذكريات السائلة».
نص من النصوص القليلة في الأدب المعاصر الذي يتوقف أمام وصف النبتة بهذا الشغف، ومقارنة الحالات النفسية للبطلين من خلال أجزائها وتداعيات كل منها على العلاقة بينهما. وصف دقيق لأجواء المرتحلين إلى أمستردام، وكذلك وصف نفسي دقيق لحالات الشرود وتداعيات الذهن وغياب الذاكرة أو ارتحالها بعيداً عن الجسد المثقل أو المخدر.
إن تقسيم النص ذاته يأخذ من النبتة ومكوناتها تقسيماً سردياً، يبدأ بالزهرة التي تمثل علاقتهما في أوجها، ثم الورقة وهي تجسد مرحلة إشراق العلاقة، وتمتنها، من دون أن يدرك أي من طرفيها أنها، وقد بدأت بأطر محددة قد حالت غراماً، لم ينتبها لمدى قوة الغرام وتمكنه منهما فيما يسعيان خلف نبتتهما يوماً وراء آخر، أو من مكان إلى آخر.
أما القسم المعنون بالساق، فتبدو فيه ملامح من الأيام التي وقفت العلاقة فيها على ساق الشراكة العاطفية، ومحاولة ميشيل نفسها، بمشاركة الراوي، البحث عن موطن ميلادها في أمستردام، وهي تتأمل الحيّ الذي قيل لها أنها ولدت فيه. وسيعود الراوي نفسه إليه لكي يحاول في بحثه عنها أن يتعرف على الموطن الذي صرخت فيه صرختها الأولى التي أعلنت بها قدومها للحياة.
يختتم النص بفصلي الجذور والبذور، وفيهما تأصيل الراوي لجذور ميشيل، وطبيعة علاقتها الملتبسة بأمها، حيث تعيش كل منهما في مكان ما أو بقعة من بقاع العالم ولا تعرف أي منهما أين توجد الأخرى، فيما تتناثر في قلب ميشيل سحب المشاعر المتناقضة بين الحب والكراهية والعتاب.
والنص كله يأتي تقريباً كمحاولة سردية لضبط الموجات الداخلية النفسية في تجلياتها المختلفة، وعياً بالعالم أو غياباً عنه، ومحاولة الإمساك بكل تلك التناقضات الشعورية، إضافة إلى لحظات العشق بينهما على نحو خاص، ثم الألم. هذا الألم الذي يحرك النص ويحرض الراوي على الكتابة إلى ميشيل بعد غيابها، ليكتب لها وعنها، وحين يعيد قراءة ما كتب ملاحظاً عدم وجودها المادي إلى جواره يزداد الألم أكثر.
وبهذا يمكن أن نجد تفسيراً لغياب تفاصيل شخصية الراوي، ما عدا مشهدين أو ثلاثة من طفولته، يستدعيها وفقاً لتداعيات ما يرصده عن عشيقته. لكنه عدا ذلك يظل لغزاً، لا نعرف سوى أنه مهاجر مصري في بلجيكا، يحب ميشيل ويتنقل معها بين بلجيكا ومدن أوروبا. جعل الراوي من نفسه وسيلة، كاميرا تصوير، وجهاز تسجيل، يتلصص حيناً ويصور جهاراً أحياناً أخرى، وهو ينصت إلى دواخل ميشيل، محاولاً أن يعرفها، وأن يجيب في الوقت نفسه عن سؤال الحب. رغم أنه كان قد زهد في الأسئلة كما أوضح في فقرة من الفقرات، واكتفى بأن يكون قريباً من الناس يختبر بروحه وبنفسه محبته لهم بعيداً عن الذهني وبعيداً عن الأسئلة.
أما التفسير التقني فيعود في غالب الظنّ إلى الذهنية الشعرية، كـأنّ النص أفلت من «شعرية اللغة»، إذ أمسك الكاتب بناصية لغة رائقة وسردية بامتياز، وطوعها لموضوعه باقتدار. لكنّ البناء السردي أو الروائي هو الذي وقع في أسر الشعرية، فبدا ميالاً إلى الجملة الشعرية التي تصف ما يرى أو يشعر أو يستدعيه الراوي. تلك التي تبدأ في مشهد وتنتهي به، وتحتفي بالإيقاع الداخلي وربما تخلق صورة شعرية، لكنها ليست ملزمة بأن تفسر ما قبلها أو تلتحق إلى ما بعدها.
ربما أفلتت اللغة، لكنّ البناء الروائي وقع في أسر الشعر، خالقاً بناء شعرياً يقارب الرواية، ولا يبلغها، لكنه يضع القارئ في حالة سردية آسرة من الصعب أن ينساها بسهولة.