حب وإرهاب في رواية سعودية

الجسرة الثقافية الالكترونية
*سليمان زين الدين
المصدر: الحياة
سؤالان إثنان تطرحهما رواية «أحببت يهودية» للكاتب السعودي وليد أسامة خليل (الدار العربية للعلوم ناشرون)؛ سؤال العلاقات الإنسانية في أحد أرقى تجلّياتها الحب، وسؤال الإرهاب. والسؤالان كلاهما مطروحان بقوة في هذه اللحظة التاريخية في عالمنا المعاصر.
يشغل السؤال الأول إثني عشر فصلاً من فصول الرواية الأربعة عشر فيما يقتصر السؤال الثاني على فصلين اثنين فقط. وهذه القسمة تعكس منظورًا روائيًّا يُعلي العلاقات الإنسانية العابرة للطوائف والقوميات لا سيّما في تَمَظْهُرَيْها الراقيين: الحب والصداقة. وتُخفض الإرهاب إلى هامش ضيّق. وهنا، قد تصطدم هذه القسمة بالواقع العالمي في هذه اللحظة التاريخية، حيث الإرهاب يملأ الدنيا ويشغل الناس، لكنها تحفظ للرواية منظورها الإيجابي لا سيّما أن اللحظة المعيشة يُفترض أن تكون عابرة.
منذ العنوان، يطرح الكاتب العلاقة بالآخر المختلف، فيثير فضول القراءة، ذلك أن «تاء» الضمير في كلمة «أحببت» تُحيل إلى رجل مختلف في هويته الدينية والوطنية عن تلك التي تحيل إليها كلمة «يهودية». فالعنوان، هنا، نوع من مصيدة يقع القارىء في شركها، ويروح، عبر المتن، يتقصّى قصّة الحب بين مختلفَيْن دينيًّا ووطنيًّا، ليكتشف خلال القراءة أن الحب علاقة إنسانية راقية تتخطّى الحواجز الدينية والقومية والسياسية والاجتماعية، وأن الإنسان الذي تؤطّره الهويات، على أنواعها، هو أكبر منها مجتمعة.
تدور أحداث الرواية في لندن، في أمكنة روائية مدينية، كالمطعم والمقهى والمسرح والشقّة ومحطّة القطار…، صيف العام 2005، وتحديدًا في الفترة التي حصلت فيها واقعة تفجير قطارات الأنفاق في المدينة، فتشكّل هذه الواقعة التاريخية بداية نهاية الحوادث، وتطرح الرواية من خلالها سؤال الإرهاب، بعد أن طرحت سؤال العلاقات الإنسانية في معظم الفصول متمظهرةً بالصداقة والحب.
في الوقائع، يتدبّر أنطوني، مستعينًا بمكتب مواعدة، أمر تنظيم لقاء بين: صديقه معين الكاتب الفلسطيني المولود في لندن لأب فلسطيني وأم بريطانية، وامرأة جميلة تتوافر فيها مواصفات الصديق للمرأة، في مطعم معيّن. الهدف المركّب هو إخراج معين من حالة الكآبة التي يتردّى فيها منذ وفاة زوجته، ودفعه إلى الانخراط في علاقة حب، وإعادته إلى الكتابة. وإذ تتخلّف المرأة المعنيّة عن الحضور مطيحةً التنظيم البشري للأمور، يتدخّل القدر في تنظيمها من خلال حضور مريم، سيّدة الأعمال اليهودية الثرية التي تملأ صورها الصحف والمجلات الاقتصادية، إلى المطعم مرتدية، ويا للصدفة! قلادة خضراء يُفترض أن تكون علامة تعارف بين معين والمرأة المدعوّة، بالإضافة إلى القميص الأخضر الذي يرتديه معين.
يشكّل اللقاء نقطة البداية في علاقة راحت تنمو بسرعة قياسية بينهما، وتتبلور من خلال لقاءات في أمكنة روائية مدينية مختلفة، وتتحوّل إلى حب عاصف، رومنسي، يتكلّل بالزواج رغم اختلافهما دينيًّا ووطنيًّا واجتماعيًّا، لتقول الرواية أن الحب علاقة إنسانية عابرة للأديان والقوميات والطبقات.
لم يحل اكتشاف مريم هوية معين الدينية والقومية والاجتماعية منذ اللحظة الأولى دون مضيّها في التجربة، فتتكشّف عن شخصية إنسانوية ترفض التمييز على أنواعه، الديني والعنصري والاجتماعي، كاسرةً بذلك الصورة النمطية المتداولة عن جماعتها. ولم يحل اكتشاف معين اللاحق هوية مريم لا سيّما الاجتماعية وعتبه وغضبه الخفيف عليها دون مضيّه، بدوره، في العلاقة. فيتكشّف عن شخصية حرّة متحلّلة من الرواسب التاريخية والأعباء الحاضرة. وهكذا، يلتقي، في منتصف الطريق، معين، الطالع من تجربة فقدان زوجته وإحساسه بالمسؤولية عن ذلك وتردّيه في الكآبة والانقطاع عن الحب والكتابة، مع مريم، الآتية من تجربتَيْ زواج فاشلتين والمحاصرة بأعمال تجارية تمنعها من أن تعيش حياتها. كلاهما مثقل بماضٍ أليم، يعيش حاضرًا جافًّا، ويحلم بمستقبل أفضل. هما يختلفان في الدين والقومية والطبقة الاجتماعية، ويتفقان في الأحلام والرغبات والنوازع الإنسانية.
في مواجهة العلاقة بين مختلفَيْن، تتعدّد مواقف الشخصيات الروائية الثانوية بتعدّد المواقع الوظيفية لهذه الشخصيات، وتتراوح بين موقف الصديق الداعم والمتفهّم (أنطوني)، والصديقة الرافضة خوفًا على صديقتها (ميا)، والأب المتردّد في البداية والداعم المتفهّم لاحقًا (أبي معين)، والأخ الرافض بدايةً والصامت قبولاً في ما بعد (عزت)، والأخ العنصري الرافض ظاهرًا والموافق ضمنًا (الأخ الأكبر لمريم).
وإذا كانت العلاقة تمضي بين الحبيبَيْن المختلفَيْن بمعزل عن المواقف المختلفة منها، فإن الإرهاب يتدخّل في نهاية الرواية ليضع حدًّا لها في شكلها المباشر، فيتحوّل معين الذي يموت في تفجير إرهابي إلى ذكرى تُلازم مريم في حلّها وترحالها وتملك عليها حياتها، وإلى جنين في أحشائها يُنتظر أن يُبصر النور. ولعلّ واقعة حملها، مضافةً إلى واقعة نشرها روايته الأخيرة، إشارتان روائيّتان إلى انتصار الحياة على الإرهاب، وإلى أن العلاقة الإنسانية متمظهرة بالحب بين مختلفَيْن يمكن أن تكون ناجحة بامتياز. وتأتي تصرّفات الصديق أنطوني لتثبت نجاح هذه العلاقة في تمظهرها الآخر، الصداقة.
هذه الحكاية يضعها وليد أسامة خليل في أربعة عشر فصلاً؛ يضع لكل منها عنوانًا يبدأ بكلمة «نقاط» يضيفها إلى أو يصفها بكلمة أخرى، تتعلّق بشعور أو فعل بشري. ويصدّر كل فصل بقول ديني أو أدبي يضعه بين قوسين. والأقوال تتمحور، بمعظمها، حول العلاقة بين الرجل والمرأة، وتشكّل عتبات مناسبة لدخول الفصول. ويُسند فعل الروي إلى راوٍ عليم يمارسه بصيغة الغائب. ويوزّع نصه بين السرد والحوار مراعيًا خطّية الزمن بحيث تطغى الوقائع المتتالية على الذكريات التي يقتصر حضورها على بضع صفحات من الفصل الخامس. وهو يكسر نمطية السرد مرّتين اثنتين؛ في المضمون، حين يجعل من الباب الفاصل بين غرفتين، في الفصل السابع، شخصية روائية يحاورها كل من معين ومريم. وفي الشكل، حين يستخدم، في الفصل الرابع عشر والأخير، تقنية الأوراق / اليوميات. وسواءٌ أتعلّق الأمر بالسرد أم بالحوار كثيرًا ما يُثقل الكاتب لغته بالإنشاء والوعظ والإطالة، وكان الحريُّ به أن يتخفّف من مثل هذه المحمولات توخّيًا لرشاقة النص وطلاوته.
ثمة مبالغة في تصوير ردود فعل بعض الشخصيات، الأمر الذي يتنافى مع طبيعة الشخصية ويجعل الأمر مفتعلاً كقيام بعض الفتيات بالتهافت على معين الكاتب للحصول على توقيعه، فلا الفتيات عاشقات قراءة، ولا الكاتب نجمًا سينمائيًّا كي يتهافتن عليه.
ثمة عدم تناسب بين الشخصية والكلام الصادر عنها، كأن تقول الفتاة البريطانية التي يُفترض أنها تعيش حريتها لمعين: «لم نعد جواري نخدم مولانا الرجل» (ص14). فمن أين لها الكلام على المولى والجواري وطرح المسألة النسوية، هي التي تنعم بكل أشكال الحرية؟
ثمة مبالغة في إضفاء جو رومنطيقي مثالي على علاقة الحب سواء في الحوادث أو الحوار ما يقلل من واقعية الحكاية في زمن لم يعد فيه متسع للرومنسية. ثمة تضارب في ذكر حصول الواقعة الواحدة، فيختلف توقيت التفجير بين الصباح (ص143) والمساء (ص138 و142). إلى ذلك، ثمة الكثير من الأخطاء النحوية والإملائية في النص، فقلّما تخلو صفحة من خطأ واحد أو أكثر.
ومع هذا، «أحببت يهودي» رواية رشيقة، ذات بنية روائية بسيطة. تصدّر عن منظور إيجابي إلى الإنسان وعلاقاته العابرة للحدود رغم أنف الإرهاب والإرهابيين، وتقول بانتصار الحياة على الموت، وهذا وحده كافٍ لقراءتها.