حدود «الذات والخيال» بين المفهوم والتلقائية في تجربة محمد عشاتي التشكيلية

الجسرة الثقافية الالكترونية – وكالات -ل شفيق الزكاري -م تكن أعمال الفنان محمد عشاتي المعروضة حاليا في رواق «لوشوفليه» في مدينة الدار البيضاء، وليدة مناخ مغاير لطبيعة اشتغاله واهتمامه، لأنها تغرف من اتجاهين مغايرين فرق بينهما المكان والزمان، من منظور حضارتين مختلفتين، جمعت بينهما لغة كونية موغلة في التاريخ، لذلك جاء عمل هذا الفنان استجابة عفوية للحظة إبداعية، لتكسر بتكويناتها الرمزية حدود الفوارق بين الذات المبدعة وبين الخيال، كجسر رابط بين هاتين الحضارتين.
إنه حوار فني مشهدي تأسس بتلقائية غير محدودة، هذه التلقائية التي تجاوزت فعل الإنجاز، لتستمد كينونتها من مرجعية مخيالية مترسبة عن فعل تراكمي للأشكال والألوان الاحتفالية، بمفردات مركبة توزعت بشكل متجانس، بين وحدة تراتبية متناسقة على مستوى التكوين والتوزيع، انطلاقا من الجزء للكل، وبين أيقونات طوطمية إفريقية، اتخذت من الشكل بعدا ثلاثيا مسطحا، يحيل على تمرين مسبق لإنجاز أعمال نحتية، فكانت ذاكرة الفنان، مسرحا لتجاذبات اللاشعورية، أودت بعمله لأن يصبح سندا مستضيفا لأسلوب جمع بين اتجاهين مختلفين، بنفحة غربية سريالية تستحضر عن قصد أو عن غير قصد، مفردات من تجربة الفنان الإسباني (خوان ميرو) من جهة، وبتلقائية طفولية بريئة لأشكال من الأيقونات الإفريقية من جهة ثانية.
قال ميرو : «كان يسحرني على الدوام الفن الشعبي الإسباني، إذ لا توجد فيه المساحيق التجميلية ولا الخداع والرياء والانفعال المزيف إنه يتجه مباشرة نحو القلب وبمحبة كبيرة»، بسبب هذا الحب للبساطة كان للفنان ميرو وقع مباشر على محمد عشاتي، يمكن استنتاجه في تجلياته، من خلال طريقة اشتغاله، حيث لا حدود للمكان، منتصرا فيه للشكل واللون فقط، ولا وجود لنقطة التلاشيpoint de fuite التي تحدد تراتبية الرؤية والمشاهدة بطريقة تصاعدية من الخلف إلى الأمام أو العكس، أو لتشكل أنماطا أيقونية خاضعة للمنظور، بل اكتفى محمد عشاتي بنظرة شمولية فوقية، اختلط فيها الحس بالعقل، بملامح صوفية تقاطعت في التشخيص والتجريد، ببراءة طفولية ولدت العمل من رحم مخيالي بعيد عن كل ما هو واقعي في طريقة بنائه، بأشكال بسيطة استمدت كينونتها من الفرح والرقص والغناء، الذي لا يمكن الإنصات إليه إلا عبر المشاهد التي أفرزتها شطحات الأيقونات الهائمة في فضاء العمل.
فعندما استنزف الفن في أوروبا في بداية القرن الماضي، التجأ كبار الفنانين الغربيين إلى توظيف مواضيع من حضارات أخرى، لضمان سيرورة إبداعاتهم بروح غربية في معالجة الأشكال، حيث اعتمد الفنان جورج ماتيو على التجريدية الغنائية التي استمدها من حركية الخط الياباني، ووظف الفنان بيكاسو القناع الإفريقي، بينما تناول في بعض أعماله الفنان هنري ماتيس نماذج من الفن المعماري الشرقي في علاقته باللون والضوء مستخدما توريقات وموتيفات زخرفية مؤثتة لأمكنته.
ولكي يحافظ الفنان محمد عشاتي، على طبيعة كيانه وارتباطه بجذوره التاريخية والجغرافية، حاول أن يعالج تقنيا كفنان فقط، موضوع الهوية انطلاقا من شمولية على مستوى المكان والفضاء، بتلقائية حسية ومجردة، بعيدا عن أية مرجعية معرفية عالمة بتاريخ التشكيل العالمي، فجعل من القارة الإفريقية بؤرة وموطنا للحوار والتعايش، انطلاقا من فكرة عدم وجود حدود ثابتة بين المجتمعات الإفريقية، معتمدا في اشتغاله على حدود ذاتية لم تستمد وجودها من خارج تربته، فكان يغرف من بحر وينحت من صخر، بأبعاد مشهدية احتل فيها الجسد بتركيباته الشذرية المحور الأساسي في تأثيث فضاءاته.
إن هذا التفاعل عند الفنان، هو الذي ساعد على إبراز خصوصية العصامية في تجربته، لتصبح محط قراءات متعددة من زوايا مختلفة يصعب تحديد مسارها على المدى القريب، وهو الذي ساهم وحفز بشكل غير مباشر على فتح حوار مسبق، جعل منه مادة لطرح السؤال، ليبقى العامل الزمني هو الكفيل بالإجابة على حيثيات تحديد نجاعة هذه التجربة أو عدم أهميتها.