حسين عبدعلي: ناس لهم أذن من طين وأذن من عجين

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

زكي الصدير 

عن دار مسعى مؤخرا روايته الأولى “متاهة زهرة” التي قال عنها الناشر “إنها تعيد الاعتبار إلى المشهد السردي الجديد في البحرين”، وقال عنها الشاعر البحريني مهدي سلمان “إنها رواية للألم القروي”. هذه الرواية التي وقفت مثل كاميرا سينمائية راصدة حياة فتاة بسيطة لتنقل إلى القارئ عبر ذاكرتها مأساة قبيلة من النساء بكل أحلامهن وآمالهن وانكساراتهن في الشرق المسكوت عنه.

 

متاهة زهرة

 

يحدّثنا عبدعلي عن “متاهة زهرة” قائلا: لا يقف زمن زهرة عند حدود حقبة الاستعمار البريطاني وحسب، بل ثمة لعبة زمنية تتكئ عليها الرواية، تنطلق من زمن وهمي بحت، وهو زمن الرحم، مرورا بفكرة الاسترجاع والاستباق، انتهاء إلى زمن القبر الذي يحيلنا إلى الزمن الأول. أشبه تماما بدوائر صغيرة تتقاطع مع بعضها البعض، تكون مساحة التقاطع للمتلقي كجسر عبور يأخذه من زمن إلى آخر، ومن شخصية إلى أخرى، ومن حدث إلى آخر.

 

ولذلك تبدأ اللعبة عندما تتماهى بوابة الدخول مع بوابة الخروج، وتتحولان إلى نقطة واحدة، نقطتي البداية النهاية. عندما يبدأ السؤال “أين أنا بالضبط؟”، وهو السؤال الذي يقفز إلى الذهن لحظة التيه والضياع، لحظة الولوج داخل المتاهة.

ويضيف: الزمن هنا زمن آينشتايني بامتياز، عندما يرى كخط ممتد تحت أقدامنا ونحن نقفز فوقه، لكن ما لدى زهرة وليس لدى غيرها، هو قدرتها على رؤية هذا البعد من طرفيه، فتنظر إلى الماضي والمستقبل في الوقت ذاته.

 

ويتابع ضيفنا حول المتاهة وما أتاحت له من إسقاطات وفرص لسبر أعماق الواقع المحلي من خلال شخصياته الروائية: من جهة، توفّر هذه اللعبة الزمنية فرصة للوقوف على مفارق أحداث تاريخية يمكن تأويلها وإسقاطها على الزمن الحالي، وهي ذريعة مشروعة للكاتب للهرب من شفرتي مقص الرقيب، بدءا من فكرة الرأسمالية ومن المستثمرين الذين لديهم المقدرة على تحويل الموظف والبشرية إلى عبيد، وانتهاء بفكرة الإصلاح المبنية على تبطين الفساد بزي جذّاب ومقبول. ويضيف: من جهة أخرى، فإنها محاولة لقراءة القرية بوصفها مكانا آخذا بالانسلاخ من هويته الريفية والاتجاه نحو المدينة.

لقد اختار عبدعلي سرد روايته بذاكرة أنثى، زهرة، وهو امتحان حقيقي لقدرة الروائي على سبر أعماق شخوصه الروائية. لكن لماذا لم تكن بذاكرة رجل قروي يعيش في متاهة الهامش؟ هل هو انتصار للمرأة، أوَلَيس الرجل في مجتمعاتنا الشرقية مهمشا أيضا؟ يقول ضيفنا: حضور الذاكرة الأنثوية في الرواية جاء وليد فكرة أن زهرة هي زهرة.

 

في ظل التمازج والتداخل بين الأنساق والقوالب الثقافية، يتلاشى الحد الفاصل بين الشعر والنثر والقصة والرواية وغيرها

أما مسألة تهميش الرجل، فالتهميش في الزمن الحالي عادل بامتياز، لا يميّز بين الجنس ولا العرق ولا اللون. هو تهميش يمتد بأنيابه على البشرية بشكل عام، بحيث يمزّق كل ما هو إنساني في الإنسانية، ويحوّل البشر إلى مجرد زومبي، أو أشبه برجال آليين، يتحكم مفهوم السوق في كل تفصيلة من تفاصيلهم بما يضمن تحقيق مقولة “كل ما للسيد حرام على العبد”. وإن أسلمنا لفكرة هامشية الذكر بمقابل الأنثى، فالأنثى ومنذ خمسة آلاف سنة وأكثر، بل على مدى عمر البشرية، وهي تقاتل للحصول على حقوقها. على الرغم من الكم الهائل والزائف من شعارات الانفتاح التي تتشدق بها البشرية والمجتمعات، إلا أن الصوت الذكوري مازال هو الأقوى والقادر على الهيمنة.

 

في ظل ذلك رأى بعض القراء في موت زهرة ترميزا إلى موت الأمل، وانتصارا لعبثية الحياة، ولامبالاة لحتمية القدر. فهل كان حسين عبدعلي يائسا إلى هذا القدر، ولا يرى خلاصا من هذه المتاهة الكونية إلا بالموت؟ يقول: يائس بشكل لا يمكن تصوّره، كل الأشياء حولنا تعزز هذا اليأس. التاريخ لا يعيد نفسه فحسب، بل يزداد قسوة. لم يتغير شيء، وعلى صعيد المعطيات الراهنة والمتوقعة لن يتغير شيء. وإن ثمة أمل معقود بنواصينا لن يزيد عن تنفسنا تنفسا طبيعيا دون الحاجة إلى أجهزة تنفس اصطناعية.

 

 

لاشيء تغير

 

من الواضح أن عبدعلي مهتم إلى حد كبير بالتوثيق الفوتوغرافي للعادات والتقاليد والأعراف المحلية جدا بصيغة سردية ضمن تفاصيل النص الدقيقة للرواية. وكأنه يحمل معه كاميراه الخاصة راصدا بدقة أصغر التفاصيل اليومية للقرية، ولعل ذلك عائد من انعكاس الفنان الفوتوغرافي داخله.

 

عن هذا الشأن يحدثنا قائلا: في ظل التمازج والتداخل بين الأنساق والقوالب الثقافية، إلى الحد الذي يتلاشى فيه الحد الفاصل بين الشعر والنثر والقصة والرواية وغيرها. لا يمكن فصل المشتغل عن التداخل في منجزه. في “متاهة زهرة” ثمة حضور للسرد، وثمة حضور للمسرح، وثمة حضور للسينما والفوتوغراف. وفكرة التوثيق للعادات والتقاليد والأعراف المحلية جاءت نتيجة اعتقادي أنها أرض غير موطوءة، أو بشكل أدق، موطوءة على استحياء.

 

وفي حديثه عن المسرح يميل حسين عبدعلي إلى أن أكبر معوقات المسرح الخليجي والبحريني على وجه الخصوص هو الحديث عن معوقاته. يقول: هذا الحديث القديم الأزلي اللامنتهي، فنحن لو قمنا بعمل ريتويت للإجابة عن هذا السؤال قبل عشرين عاما، سيكون الريتويت كافيا ووافيا لشرح الحالة والوضع في المسرح. لذلك، أجد الحديث عن خلق البدائل والحلول الشخصية، أجدر وأنجع.

 

فنحن طوال عشرين عاما نكرّر ونجتر المعوقات ذاتها: غياب الدعم (المعنوي والمادي)/ غياب صالات العرض/ غياب صالات التمارين/ الاهتمام بالمسرحيين، إلخ. وعلى ما يبدو، إما أننا نتحدث بلغة غير مفهومة، وإما أن للمسؤولين أذنا من طين وأذنا من عجين. وعليه، أجد أنه إذا كان ثمة أمل موجود، فهو معقود بالتجارب الشخصية التي تبرز هنا وهناك، وبمحاولة استثمارها وإبرازها بشكل أكبر. فهي أعمال تحفر الصخر بأظافرها.

 

ويؤكد عبدعلي أنه حين أسس مهرجان تاء الشباب في البحرين 2009، على يد الكاتب البحريني الراحل محمد البنكي، كان مشروعا يحمل جينات مختلفة عن المشروعات الثقافية الكلاسيكية في المنطقة.

 

يقول: أزعم -وعلى حدّ علمي- أن بدايات تاء الشباب كفعل ثقافي شبابي كان يرتكز على جينات مختلفة عن المشروعات الثقافية الكلاسيكية، ويحمل كهدف مأمول أن تكون فردانيته بمحاولة الغوص في العمق، أو التأسيس لمجموعة شبابية تحاول أن ترمي بنفسها في الهاوية، ثم تنهض لتنفض غبار سقوطها وتبحث عن هاوية أخرى وتجربة أخرى. هذا ما ستجده عندما يقوم البنكي بزج اسم مثل جاك دريدا ضمن فعاليات التاء، ليتوالد السؤال عند الشباب المهتم بالثقافة “من هو جاك دريدا؟”. وهنا أول شرارات المعرفة: السؤال، والسؤال يتمخض عن سؤال آخر.

 

يقول: ما أجده الآن، أن ثمة انحرافا رهيبا يشوب التاء، انحرافا يأخذه نحو السطح. هو الانحراف عن أفق الأسئلة واللجوء إلى الإجابات المعلّبة والمؤطرة والجاهزة. وبالتالي، لا يختلف هذا المهرجان في فعالياته حاليا عمّا يقام من فعاليات أخرى.

 

هو نسخة كربونية من فعاليات تقام من أجل الفعالية فقط لا أكثر، وإن ثمة هدف من ورائها فلا يتجاوز الحصول على أكبر عدد من الصور التي يمكن نشرها في الإنستغرام. مع فارق الدعم الحكومي الباذخ المتوفر لدى هذه المجموعة، مما يضمن صبغ فعالياتهم بصبغة راقية تحافظ على “البريستيج” وفن “الإتيكيت”.

 

المصدر: العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى