حكاية صورة.. الطمعُ عِطراً!

الجسرة الثقافية الالكترونية –

جهاد جبارة

طمعُ الإنسان بالجَمال لم يُشبعهُ حُسن الحسناء الذي تراه العين، ولا بملمس حرير شعرها الذي تلمسهُ أصابع كف العاشق لدى مرورها في عتمته، أو ذهبه، كمرور أسنان المشط لحظات التسريح.
الإنسان الذي يُريد أن يُشبع كل حواسه أراد أن يُرضي أنفه أيضاً ويشبعه من رائحة تلك الحسناء، فبعدَ أن شمَّ رائحة الكون الذي كان يضوّعه الربيع بشذى أنفاس ازهاره، وعِطرها راح يبحث عن وسيلة ليسرق العطر، والشذى ليتضوّع به كي يُرضي أنف حسنائه، وأن يرشّها به ليرضي أنفه، فالفراعنة وقبل خمسة آلاف عام كانوا يحرقون النباتات العطرية لِيُرضوا بعِطر دخانها أنوف آلهتهم أثناء اقامة طقوسهم الدينية، لكن العرب وقبل ألف وثلاثماية عام راحوا يستقطرون تيجان الأزهار ليستخرجوا منها العطر الذي سيُغرقون به عُنق الحسناء، ووجنتيها.
لم يكتفِ الإنسان بالسطو على زهرة الليمون، والبرتقال والنارنج قبل أن تنضج لتصير ثمرة، بل راح يغتصب أخشاب شجر الصندل، والأرز، ولم يكتفِ بل تنبه لأوراق الخُزامى، والغرنوق، والنعناع، وتمادى طمعهُ أكثر حين وجد أن جذور الزنجبيل، والسوسن تختزن روائح عطرية فلم يتوانَ عن الفتك بها ليُرضي حاسة شمّه إذا ما تضوّعت حسناؤه بخلطةٍ من تلك العطور.
طمع الإنسان بالعطر لم يتوقف عند استباحة الأزهار، والأخشاب، والأوراق، والجذور بل راح يُمعن بالبحث عن مصادر أخرى، فأبحر في المحيطات ليطارد حوت العنبر ليستخرج القيء من جوفه ليضوّع به حسناءَه، فحوت العنبر الذي يغوص إلى أبعد عمقٍ في مياه المحيطات بحثاً عن وجبته المفضلة من الحبّار العملاق وأنواع عديدة أخرى من الأحياء البحرية لا تقوى أمعاؤه على اسيتعاب كامل ما يلتهمه من ملذات المحيط فيفرز العنبر الشمعي المعطّر الذي يحفزه على التقيؤ ليتخلّص من فائض ما ابتلع.
صيادو وجامعو العنبر الأشهب الأغلى ثمناً، والذي يقدّر بالذهب يوصفون بالمحظوظين إن وجدوه عائماً على سطح مياه المحيط، وإلا فإن رماحهم المُسنّنة ستنطلق بلا رحمة لتنغرز في أجساد تلك الحيتان الرؤوفة بصغارها، فأنثى حوت العنبر تقوم برعاية صغيرها وارضاعه لما يقرب من عشر سنوات!.

لم يكتفِ طمع الإنسان صاحب الأنف المأخود بالعطر، بالابحار في عرض المحيطات بل حمل حِبالا، وكُلاّبات التسلّق ليعتلي غابات الهملايا، والتبت، أو ليواجه صقيع سيبيريا الحاد ليطارد أيائل المسك، أو الظبي الصغير المُسمى أيضاً بغزال المسك، فهذا الغزال الذي يسأم، ويُضايقه وجود تلك الغدّة الكيسية المحتوية على المسك يأخذ أحياناً بحَك سُرّته على الأشجار والصخور ليخرج تلك المادة العطرية الأثمن فيتخلص من ضجره الذي لازمه طويلاً فيقوم جامعو المِسك بجمعه ليُصبح أحد مكوّنات أغلى العطور التي لا يملك أثمانها سوى الموسرين الطامعون بإرضاء شغف الأنوف بالعطر

الراي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى