حمدي رضا: أرغب في وصول الفن إلى مناطق محرومة

ياسر سلطان
«آرت اللوا» مساحة في القاهرة، مُخصصة لتقديم الفنون المعاصرة، أسَّسها الفنان المصري حمدي رضا عام 2006، وتحولت مع الوقت إلى أحد أهم المساحات الفنية في العاصمة المصرية. هي تجربة تحمل مزيجاً من الجرأة والدهشة؛ لكونها الوحيدة بين المساحات الفنية العاملة في القاهرة التي تقدم نشاطها من قلب أحد أكثر الأحياء الشعبية كثافة وازدحاماً بالسكان، وهو حي «أرض اللوا». تبدو القاعة وسط المحيط الموجودة فيه كياناً مثيراً لدهشة لا تقتصر على سكان الحي وحدهم، بل هي كذلك تنتاب الكثير من المثقفين والمهتمين. فالقاعة تبدو من بعيد كأحد المحال التجارية الصغيرة المجاورة لها، ولكن ما إن تقترب منها حتى تفاجأ بأن البضاعة المعروضة فيها مُختلفة تماماً. فثمة رسومات مُعلقة على الجدران، وصور فوتوغرافية غير مألوفة تتبدل بين الحين والآخر، أو ربما يشد انتباهك أحد أعمال التجهيز في الفراغ التي تعتمد على التوليف بين عناصر ومفردات ووسائط فنية تعد غريبة إلى حد ما عن الطبيعة البصرية لسكان الحي. تتبدل هذه المعروضات بين الحين والآخر ويتم الاحتفاء بها على نحو جاد. كما تحول المقهى الصغير القريب من القاعة إلى امتداد طبيعي لها، يلتقي فيه رواد القاعة من المصريين والأجانب في ظل صخب الشارع الضيق. هذا النشاط قوبل في البداية بشيء من الريبة والتوجس، من جانب أهل الحي، بخاصة وهم يرون ذلك الحضور اللافت وغير المعتاد للأجانب، غير أنهم بدأوا التعود عليه، وساعد في ذلك كون رضا يقيم أصلاً بينهم. هم يعرفونه جيداً، ولا يتحرجون من طرح تساؤلاتهم البسيطة حول هذا النشاط أو تلك الأعمال الغرائبية – من وجهة نظرهم – التي يقوم بعرضها داخل «دكانه الصغير».
استطاع هذا «الدكان» بمرور الوقت أن يفرض لنفسه حضوراً على ساحة العمل الثقافي المصري، فلم تعد «آرت اللوا» مجرد قاعة عرض، بل تحولت إلى مساحة فنية متكاملة تقدم نشاطاتها المتعددة لجمهور عريض من الفنانين وأهالي الحي أيضاً. يشمل نشاط القاعة تنظيم ورشات وندوات ولقاءات ثقافية، إضافة إلى إتاحة الفرصة للتبادل الثقافي بين مصر وأوروبا من خلال برنامج للإقامة الفنية بين «آرت اللوا» ودول عدة. علاقة حمدي رضا بالفن ارتبطت بشغفه بالصورة الفوتوغرافية، سواء كانت حقيقية أو متخيلة، وساعدته دراسة الفنون الجميلة على تأكيد هذا الشغف على نحو له علاقة أكثر بالجماليات الاستاتيكية من تكوين وإضاءة وغيرها. لذا ارتبط، في بداياته، بالتصوير بالأبيض والأسود، إلى جانب الرسم بالألوان الزيتية.
يقول رضا: «في ذلك الوقت كنت أبحث عن إجابة عمّا يعنيه كوني فناناً، فالدراسة في الفنون الجميلة قاصرة على تغطية كل مناحي الفن في صورته المعاصرة، وكان الأمر قاصراً على دراسة تاريخ الفن وبعض الممارسات الفنية المرتبطة باختصاصي في قسم التصوير الزيتي. بعد التخرج عملت مع الفنان عبدالغفار شديد كمساعد باحث في قسم تاريخ الفن، لكني بعد عامين سئمت من أجواء البيروقراطية التي تفرض نفسها على العمل الأكاديمي، وقررت الخروج إلى الشارع متوقفاً عن استكمال رسالة الماجستير التي كنت أعمل عليها ومواجهاً اعتراضاً شديداً من قبل أساتذتي وأسرتي.
> ألم تندم على اتخاذ هذا القرار؟
– لم أندم، لأنني بمرور الوقت كان يتأكد لي أن قراري هذا كان صائباً. كان القرار له علاقة بحياتي الشخصية، ولم أكن أرى نفسي بالكفاءة التي كانوا يرونها فيَّ. كنت أرى أنه ينقصني الكثير، ولكي أواصل العمل الأكاديمي يجب أن أقرأ أكثر، وان أتقن لغة ثانية في شكل أفضل. وفي الوقت ذاته كنت أرى أن الأمر لن يكون له معنى أو مردود إيجابي على شخصي أو حياتي. كان من السهل أن أقوم بالتوفيق بين عملي الأكاديمي وعملي الحر، لكن الأمر بالنسبة لي كان متعلقاً بقابليتي للقيام بذلك. كان عليَّ أن أكون الباحث الذي أحترمه وليس ما يقبله الآخرون.
> شغـفك بالفـوتـوغـرافـيـا، دفـعك إلى السـؤال «مـاذا يـعنـي كونـي فناناً»؟
– كانت الفوتوغرافيا في مصر وقت تخرجي مجرد وسيلة يهواها البعض، وكان الفاعلون في الحركة في ذلك الوقت يرون في الفوتوغرافيا والفيديو آرت وغيرها من الممارسات المعاصرة نوعاً من الاستسهال والتقليد للغرب، وأنها ليست لها علاقة بأصالة ثقافتنا ولا بالعمل الجاد. في حين كانت هذه الممارسات تحظى بتقدير العالم. فحين سافرت إلى سويسرا- وهي المرة الأولى التي أسافر فيها خارج مصر – رأيت كيف يتم تقدير الفوتوغرافيا، حتى أن لها متاحف خاصة بها فقط. لقد أفادني السفر إلى خارج مصر في تعزيز علاقتي بالفوتوغرافيا، لكن علاقتي بالخارج تعود إلى ما قبل ذلك، فقد شاركت مع مصور ألماني في معرض عن القاهرة في عام 2003، كما أفادتني معرفتي الوثيقة بالفنان الراحل هاني الجويلي، والذي أفادني كثيراً لأنه كان يملك مساحة أكبر من الاطلاع. ساعدني هاني الجويلي بنقل بعض خبراته في ما يتعلق بالصورة الفوتوغرافية كوسيط فني، وأقمتُ معه معرضاً مشتركاً في أتيليه القاهرة في عنوان «حوار». كان حواراً فوتوغرافياً بيني وبينه متعدد الطبقة، إذ كان حواراً بين الأبيض والأسود واللون، وحواراً عن صوري في مصر وصوره في إيطاليا، وكذلك بين أسلوبه الذي يعتمد على الشكل الجمالي للصورة بصرف النظر عن العناصر، وأسلوبي الذي أهتم فيه بحضور العناصر وتفاعلها مع بعضها، ربما بسبب تأثري بأعمال المستشرقين، فعلى رغم سطحيتها إلا أنها أكسبت عملي معنى ما.
> ما هي الأسباب التي دعتك إلى تأسيس «آرت اللوا»؟
– هناك سببان؛ الأول متعلق برغبتي في الوجود في محيط الحي الذي أعيش فيه، لأن ظروف الإقامة هنا أقل كلفة، فأستطيع استغلال وقتي في الشكل الذي يحلو لي، والثاني أن المكان هنا غني بألوان وأشكال كثيرة للحياة، وهي تمثل عاملاً مساعداً وإلهاماً لي كفنان. هذا ما أقوله دائماً، ولكن يحضرني الآن شيء آخر له علاقة برؤية الموضوع من زوايا مختلفة، أولاها زاوية ذاتية لها علاقة بكوني أنا كإنسان، وماهية العمل الذي أريد القيام به وأنا سعيد وأستطيع تطوير نفسي فيه، ومساعدة الآخرين أيضاً على تطوير أنفسهم ومساعدتهم على إعادة صوغ أفكارهم عن الحياة والفن، بخاصة أن الفن بعيد جداً من الحياة ومن الشارع وهو أمر يحدث على مر التاريخ، أن يصل الفن في مراحل من مراحله إلى نوع من العزلة ويأتي بعض الأفراد الذين يدركون أن هناك ثغرة ما أو حلقة مفقودة فيحاولون العثور عليها. هذا جانب من الأمر، أما الجانب الآخر فله علاقة بوجودي هنا في هذا المكان، فأنا أعيش في هذا الحي المحروم كغيره من الأحياء الشبيهة من أي خدمة ثقافية. فما الذي يمنعني من القيام بدور ما له علاقة بالفن في هذا الحي؟ أفعل ذلك وأنا مدرك أنه إذا كان قد توافر أمامي شيء كهذا وأنا صغير لساعدني كثيراً، فالأمر له علاقة برغبتي وإيماني في ضرورة وصول الفن إلى مناطق ضيقة ومحرومة.
> ما الذي يميز مشروع «آرت اللوا» عن غيره من المشاريع الثقافية المستقلة والمعنية بالفنون البصرية، هل هو وجودها وسط مناطق عشوائية ومحرومة من الخدمات الثقافية فقط؟
– يمكنك القول أن «آرت اللوا» نافذة للتعرف إلى الفن المعاصر، ولمساعدة من يريدون أن يروه في شكله الحقيقي. التجربة ليست جديدة، لكن ما يميزها هو أن المساحات المعنية بالفنون المعاصرة تتخذ شكلاً ليست له علاقة بالهوية المصرية. أنا نموذج للإنسان البسيط الذي نشأ في أسرة متوسطة الحال تعيش في منطقة عشوائية، ودرسَ الفنون الجميلة واستطاع أن يشق طريقه وأن يصقل تجربته الذاتية. «آرت اللوا» مشروع مقدم لأمثال هذا النموذج.
> كيف استقبل أهل الحي مشروع «آرت اللوا»؟
– كان هناك نوع من عدم التقبل أو الريبة من جانب البعض في البداية، فالأشياء غير المألوفة عادة ما تكون غير مرغوبة، لكن كوني من سكان الحي مثَّل سبيلاً لإزالة هذا الحاجز بين المكان ومن يرتابون في نشاطه. كانت ورشات الرسم الموجهة إلى أطفال الحي من بين المشاريع التي ساهمت في إزالة هذه الحواجز. ومن الأمور الإيجابية لهذه الورشات على سبيل المثل أن ترى كيف أصبح هؤلاء الأطفال بعد عشر سنوات من وجود «آرت اللوا» مرتبطين بالفن، وكيف أصبحوا يمتلكون القدرة على تذوقه وتقديره.
> هل هناك تنسيق بين «آرت اللوا» ومؤسسات أخرى شبيهة؟
– حدثت محاولات لتكوين كيانات أو ائتلافات، لكن غالبيتها باءت بالفشل، فقبل الثورة كانت هناك مبادرة لمجموعة من المؤسسات المعنية بالفنون من بينها «التاون هاوس»، و «مركز الصورة المعاصرة». وبعد الثورة ظهر «ائتلاف الثقافة المستقلة»، لكنه مات سريعاً لأنه كان مفتوحاً على عدد كبير وضخم من الكيانات والأشخاص، ولكن يحدث من وقت لآخر أن ينشأ نوع من التعاون بين بعض الكيانات والمؤسسات على نطاق ضيق.
> غالبية المشاريع الثقافية المستقلة تعتمد في جزء كبير من نشاطها على الدعم الذي تتلقاه من مؤسسات دولية معنية بدعم الثقافة، فهل كنتَ تحصل على التمويل بسهولة؟
– أنا لم أكن أسعى في البداية إلى هذا التمويل، ولكن بعد ثلاث سنوات من عمر «آرت اللوا» سعى بعض المؤسسات إلى تمويل نشاطه. لكننا خلال العامين السابقين لم نتلقَّ أي تمويل من أي جهة بعد صدور قانون الجمعيات الذي فرض عقوبات على المؤسسات التي تحصل على التمويل من الخارج.
> ألم يؤثر هذا الأمر في نشاط «آرت اللوا»؟
– هو يؤثر بالفعل في كثافة النشاط، فقد اضطررت لتقليل حجم المصروفات وقلَّصت عدد العمالة، في وقت أحاول التغلب على الأمر من خلال الشراكات المباشرة مع الفنانين سواء هنا أو في الخارج، واللجوء إلى أساليب بديلة لتغطية العجز المادي، مثل عرض بعض أعمال الفنانين للبيع، وأنا أقول ذلك على استحياء لأن «آرت اللوا» هو مشروع ليس له غرض ربحي، لكننا نفعل ذلك لتحقيق نوع من الاستدامة وليس جزءاً من استراتيجية المكان.
> هل ينطوي التمويل الخارجي على سلبيات؟
– أكبر السلبيات التي ينطوي عليها يتمثل في الاعتماد على التمويل على نحو يمنع العمل بجدية لإيجاد حلول مستدامة بديلة، ما يعرض المشروع للتوقف والانهيار في حال انقطاع هذا التمويل.
(الحياة)