حميد دباشي يؤكد أننا بحاجة إلى أبجدية جديدة لقراءة هذا العالم

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

محمد الحمامصي

 

يعتبر هذا الكتاب “ما بعد الاستشراق – المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب” للمفكر الإيراني حميد دباشي أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا، واحدا من أهم الكتب التي تواصل في موضوعة الاستشراق، لأن المؤلف صديق وزميل إدوارد سعيد، أراد أن يكمل ما بدأه زميله في كتابه الأهم الاستشراق.

 

وإذا ما كانت وجهات نظر إدوارد سعيد في “الاستشراق” تقطَعُ شوطاً طويلاً في شرح شروط الهيمنة والتمثيل منذ الحقبة الكولونيالية الكلاسيكية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصولاً إلى الزمن الذي كتب فيه دراسته البارزة تلك في أواسط السبعينيات؛ وعلى الرغم من أن العديد من وجهات نظره ما زالت سارية المفعول، إلا أن ملاحظات سعيد بحاجة إلى التحديث وإعادة التعيين عندما يتعلق الأمر بالأحداث التي أدّت إلى مُتلازمة مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. ليس هذا من باب التشكيك في أهمية “الاستشراق” ولكن من أجل تقديم نظرة من زاوية مختلفة نحو أعمال سعيد.

 

يكتب حميد دباشي مقدمة كتابه الصادرة بالانجليزية عام 2008 أثناء موجة الغضب العارم التي اجتاحت جاليات المسلمين والايرانيين في الولايات المتحدة التي أشعل شرارتها رسم كرتوني مدرج في الطبعة الصادرة في الرابع من سبتمبر/أيلول 2007 لصحيفة كولومبس بوست دسبيتش والذي يصور الايرانيين كصراصير تنقذف خارجا من بالوعة مصرف صحي، والذي رأى فيه “أكثر من محاولة لتشويه التصور العام لأمة بأكملها، إنها حركة استيباقية تمهد دلالاتها لموضوع الابادة، بسبب ذلك يحدث ما يحدث للصراصير والحشرات الأخرى، إنهم يبادون.

 

غير أن مشكلة هذه الرسوم وما تستبطنه من مشاعر، هي في كونها ليست ولا عرضية في نطاق التركيبة العنصرية التي تمثله، بل هي متكاملة في واقع مع طيف معياري أوسع كثيرا، عادة ما يبقى صامتا ويتراكم بصورة غير ملحوظة، كتابية رسائل الاحتجاج إلى المحرر ونشرها أيضا هي الحد الأدنى من الاحتجاج والرد تجاه سلوك كهذا، لكن ما يفوق ذلك أهمية، هو السعي نحو فهم جوهري أوسع للمعايير التي يستند إليها الرسام، الصحيفة، وجمهور القراء كذلك، في المبادرة والقبول برسومات كهذه وفي خلق وتعزيز تلميحات حول إبادة شعب بأكمله.

 

لأحدنا أن يتساءل ببساطة حتى فيما ينسب للكتاب المقدس “بأية سلطة ومن منحكم هذه السلطة”. كما هي العادة دائما توجد علاقات متبادلة بين المعرفة “طرق استيعاب الجمهور” التي تولدها وتعززها تلك الرسومات، وبين القوة العسكرية القادرة على إبادة تلك الصراصير”.

 

يقدم حميد دباشي بين دفتي الكتاب سجلا لسنوات استغرقت تأملاته في السؤال حول سلطة التمثيل المدعاة هذه وقوتها الظاهرة على وجه التحديد، من يمثل من وبأية سلطة؟ حين تروج أعمال ذات ذات صبغة عنصرية من هذا النوع في الولايات المتحدة الأميركية، الدولة صاحبة القوة العسكرية الأولى في العالم والمشاركة بفاعلية في عمليات عسكرية في أفغانستان والعراق وفي فلسطين ولبنان عبر إسرائيل، فإنها تقوم الكثير عن زعم متأصل راسخ الجذور بجدارة التمثيل الأخلاقي والمعياري، الأمر الذي ينبغي حقا تحليله ومراجعته.

 

ويضيف حميد دباشي أن إدوارد سعيد في كتابه الرائد “الاستشراق” يقتفي الأصل البعيد لسلطة التمثيل والتمثيل المعياري الذي تتبعه في تركة المرحلة الكولونيالية المتجبرة التي حملت معها شراذم التجار المحاربين المرتزقة والضباط العسكريين والمبشرين المسيحيين وعددا من المستشرقين الاوروبيين في أصقاع الدنيا ومكنتهم من الكتابة والتمثيل ـ بالنتيجة ـ عن الشعوب التي سعوا لحكمها، مضى ادوارد سعيد في “الاستشراق” بعيدا نحو شرح شروط السيطرة والتمثل بدءا من الحقيبة الكولونيالية الكلاسيكية في القرنين 18 و19 وصولا إلى الوقت الذي كتب فيه دراسته المفصلية في أواسط السبعينيات ولا تزال بعض تصوراته رغم ذلك شرعية ومؤثرة. ويتحتم اليوم تحديث ملاحظات إدوارد سعيد وتفصيل مضامينها بالنظر إلى رمزية الأحداث المفصلية التي أدت إلى متلازمة: ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.

 

لقد وضع هذا الكتاب في جزء منه استجابة لهذه الحاجة، ولخوض غمار التفكير عبر رؤى إدوارد سعيد وانعكاسها على أحوالنا المعاصرة وليس الهدف هنا العمل فقط على تشخيص: كيف وعبر أية آليات يستمر الشرق في كونه ممثلا بالنيابة ويجري البحث في طرق إخضاعه للسيطرة، بل بهدف الوصول إلى ما هو أبعد: كيف وبأية مصطلحات خاصة بالامكان مقاومة تلك الرغبة بالسيطرة، وكانت هذه الأخيرة، الرغبة في مقاومة القوة، هي نقطة التحول الرئيسية في دراسة إدوارد سعيد المهمة الأخرى “الثقافة والامبريالية 1991، على الرغم من أنها في معظمها جرد أرشيفي لأنماط المقاومة الثورية ضد السيطرة الأوربية.

 

ويشير حميد دباشي إلى أن غايته الأبعد في هذا الكتاب تتمثل في “توضيح المقدمة النظرية لقوة التمثيل الذاتي، المتمرد في التابع المستعمر والخاضع للسيطرة، هل بمقدور التابع أن يتكلم؟ أتساءل بدوري مع “غاياترى سبيفاك” وأتمنى أن أشارك في الاجابة على هذا السؤال “البلاغي ربما” سعيا نحو هذا الهدف، اتخذ طريقي عبر عمل إدوارد سعيد للكشف في السؤال الحرج المتعلق بالتمثيل الذاتي المستقل وإرادة مقاومة القوة وفي كيفية إتاحة المجال أمام التابع للتعبير عن ذاته وجوديا، وراء الأزمة المفترضة للمستلب.

 

إنه السؤال الذي استقر في التفكير الفلسفي الأوروبي منذ ميشيل فوكو ولاحقا له، وبقي أساسا من دون حسم لدى إدوارد سعيد. وراء الأزمة المفترضة للمستلب، أضع فكرتي تحت مجهر البحث مستهديا بتلك اللحظات الخلاقة والدقيقة للتابع حين يقوم هو / هي باستفزاز التمثيل الذاتي والسلطة معا للحديث علنا عن الصدمات التاريخية التي هدفت في الحقيقة إلى خنق صوته/ ها.

 

يناقش حميد دباشي في فصله الأول “في مثقفي المنفى” يبدأ بقراءة كتاب “صور المثقف” لإدوارد سعيد باعتبارها كتابا محوريا في مشروع سعيد الحيات، المتمثل في الكشف والجدل والتعبير لاجتراح الأسلوب والمنهج المتعلقين بالتمثل الذاتي في بعده الأخلاقي، في حيز ما بعد ميتافيزيقي ووراء أزمة المستلب التي سادت المشهد الفلسفي ما بعد الفوكوي.

 

يعرض هذا الفصل صور مثقف المنفى التي تحتل أهمية كبرى في المسعى الهادف لغرس التمثل الذاتي المستقل بشقيه المعياري والأخلاقي وبما يمس وجودنا المادي. حيث تبقى صورة المثقف تلك طاغية الحضور في الكتاب ترافق خطوات المؤلف الماضية نحو ابتكار المعرفة المضادة في زمن الارهاب والحرب المعممة، وحيث تقضي إرادة مقاومة القوة، رفع طاقتها لتوازي الرغبة في السيطرة والتمثيل وإظهار البشر كصراصير تنتظر الابادة.

 

وفي فصله الثاني “إيجناتس جولد تسهير ومسألة الاستشراق” يسلك المؤلف طريقه بمحاذاة مسارات ثلاثة متداخلة معا: الأول الحياة الاستثنائية والمسار الحياتي العملي للمستشرق البارز والتحدي الذي طرحه ادوارد سعيد في استشراقه، الثاني نقل الجدل “السعيدي” إلى ركن مختلف وسبره من زاوية سوسيولوجيا المعرفة التي سبقت كتابه بعقود، ومن ثم إقامة البرهان على صحته من منحى مختلف تماما. والثالث فتح الطريق نحو صياغة جديدة للسؤال الحرج المتعلق بالتمثيل الذاتي المستقل في السياق الاستشراقي وراء إدوارد سعيد ونقده للاستشراق.

 

في السياق نفسه عمل المؤلف في هذا الفصل علي ابتكار سبيل جديد نحو نمط من التمثيل الذاتي المستقل يمكن التابع من إنتاج منظومته المعرفة بشأن العالم من دون أن يكون أسير ما يسمى بأزمة المستلب، حيث قام بتفكيك العناصر الأساسية للنظرية المختزلة للتابع أو الشرقي، كونها تفضي بطبيعة الحال إلى تأسيس التمثيل بالنيابة، ثم حسب الأسلوب السعيدي سعى لنقل السلطة المعيارية للتابع إلى موضع طباقي يرفض فيه أن يكون مختزلا وممثلا أو أن يكون عرضة لأي سرد تفكيكي تقوم به الذات العارفة.

 

وحاول المؤلف في فصل “أنا لست تابعيا” نقد كل من سبيفاك وإدوارد سعيد في سياق واحد عبر مواجهة دقيقية مع راناجيت غوها ونقده للنظرية الهيجلية في التاريخ، باحثا في المسافة الفاصلة بين إصرار إدوارد سعيد على استعادة أنسنية ديمقراطية وناقدة وتحريريها طباقيا وبين سبيفاك مؤسساتيا على القول باستحالة التمثيل الفكري للكتلة البشرية المهمشة “التابعة” في مسار ثالث أوسع كثيرا، وفي سياق المسار الأخير يجادل المؤلف في إمكانية ضم إلتزام إدوارد سعيد السياسي الجريء إلى نقد سبيفاك ـ المعيق ـ لعملية تفكيك ذات السيادة الأوروبية، دون أن يكون جدله جزئيا من مفهوم إدوارد سعيد للأنسنية المتبقية، أو جزءا من إطالة سبيفاك لعمر أزمة الذات الأوروبية أكثر من ذلك الهدف، والتعلم ثم القفز ما وراء سعيد، سبيفاك، وغوها، يكون بوضع نهاية لفكرة أوروبا أو من باب أولى “الغرب” كمحاور أساس بالنسبة للعالم. كلا، إنه ليس كذلك.

 

وفي باب تال “تقدم الحجيج” حاول المؤلف نسج خيوط متعددة على نول رؤية مشتركة بين عدد من المفكرين والفاعلين الثوريين: تشي غيفارا وفرانتز فانون، مالكوم إكس، وعلى شريعتي، الذين تمكنوا من اجتياز عوائق مربكة للوصول إلى عولمة مفهوم التحرر، وهدفه هنا هو تفصيل قضية التمثيل الذاتي الخلاق في السياق الثوري على وجه التحديد، وبرهنة أن الخصيصة الثورية الأصيلة حقا هي التمظهر الجلي المناقض على الدوام لحالة الزيف الثوري (أن تكرس نفسك وتنتظم في نشاط ثوري يستلزم حراكا متآلفا مع تعبير خطابي واحد لهذا النشاط).

 

ويعتبر حميد دباشي أن إدوارد سعيد مفكرا ثوريا حقق في فضاء الأفكار والتطلعات ما حققه بالضبط وبصورة عملية كل من تشي غيفارا، فرانتز فانون، مالكوم إكس وعلى شريعتي، مترجما القيود التي يفرضها الأصل المحلي ونعرة المواطن الأصلي إلى لغة عامة متداولة في الصراع المحلي ونعرة المواطن الأصلي إلى لغة عامة متداولة في الصراع الدولي قدم عبرها قضيته الخاصة فلسطين، يؤدي التطبيق العملي للنظرية بالمحصلة إلى نسق ثوري عابر للحدود يفلت من قبضة السلطة وينطلق بلسانه الثوري الخاص.

 

ويوضح “بناء على مراجعة المفهوم الأخلاقي والمعياري للفعل الذاتي أعود إلى ما أعتقد أنه طور ما بعد الاستشراق في الباب المعنون بـ “تناضح داخلي، معرفة بلا فاعلية، امبراطورية بلا هيمنة” هدف إلى المضي وراء نقد إدوارد سعيد للاستشراق على نحو يجابه وسائط إنتاج المعرفة ـ متمثلا ما وقع في أعقاب كارثة الحادي من سبتمبر/أيلول ـ ونشوء نمط من الامبريالية لا يقوم على الهيمنة المستدامة، وغايتي هنا أن أؤلف ما بين النقد المابعد كولونيالي والنسق المابعد استشراقي في نسيج متناغم من جهة إنتاج المعرفة، متحررا من ربقة التحليلات الخطابية كمخطط حرب عصابات رشيق الحركة وشديد الحيوية.

 

أقترح مفهوم التناضح المعرفي كآخر أطوار المعرفة المتعلقة بالشرق الأوسط، طور لا يعتمد فيه هذا النوع من المعرفة المفيدة على منهج خاصص في قولبة الذات لعدم اعتماده أساسا على تصور بعينه نموذجي أو معرفي. يصل بنا ذلك إلى تفتيت موضوع السيادة الأوروبية والذات العارفة من داخله في الوقت الذي تفشى فيه رأس المال المعلوم على نحو فعال، لا يعرف مركزا ولا محطا معززا بالمقابل الوهم بسيادة الذات العارفه.

 

وهدف حميد دباشي في الفصل الأخير من كتابه هذا “نحو عضوانية جديدة” إلى تجديد الالتزام بالنداء الأخلاقي الذي لا يلزم الصمت إزاء فظائع العولمة ويقوض أية محاولات لإضفاء المصداقية على تمثيل زائف.

 

وبالنهاية يرى حميد دباشي إلى ضرورة “تغيير المحاور واستيعاب الممكنات المتاحة على مستوى العالم لمعالجة القضايا الأساسية في زمننا الراهن والمتعلقة بأولئك المستهدفين من دعوات الحرب الامبراطورية على التوازي مع اتخاذنا القرار في تحديد الطرف الذي تتوجب مخاطبته، هي اللبنات الأساسية في تخليق وتدعيم الفعل التاريخي الذاتي للناقد ما بعد الكولونيالي كافيا أو ضروريا حتى. ويشق على أي منا أن يكون أكثر بلاغة وأناة وإصرارا مما كان عليه إدوارد سعيد في معالجة هذه القضايا وعرضها على المحاور الغربي، فماذا كانت النتيجة؟ روبرت إيروين وكريستوفر هيتشنز النتيجة وقبلهما برنارد لويسوفؤاد عجمي.

 

الخطاب الكتابي المضاد ومناهضة إنتاج المعرفة الامبراطورية ينبنيان بالكامل على وجوب تغيير الطرف الذي نخصه بخطابنا. تقاس أهمية التمثيل الذاتي ما بعد الكولونيالي بعيدا عن الأسئلة المشروعة لموضوع السيادة في لغته المتمكنة والموجهة سياسيا، المتحررة من مأزق الخطاب الموارب الموجه إلى المحاور الذي نصب نفسه متحدثا باسم العالم.

 

إننا بحاجة إلى أبجدية جديدة لقراءة هذا العالم. لغة السلطة هي لغة مترفة للغاية، ذاتية المرجعية ولا تفر بالانتهاكات التي تمخضت عن المنطق الأعوج لتكوينها ومصالحها، ما يدفعني للاعتقاد أن شخصية مثقف المنفى هي التربة الأخصب لزراعة التمثيل الذاتي النقدي المستقل هو قدرة هذه الشخصية بالذات على تحمل أعباء عملية تغيير المحاور، إذ يقع مثقفو المنفى خارج دائرة المنظومة التأويلية للحوار ويعيدون خلق حوارهم الخاص مجددا في سيرورة مستمرة”.

 

يذكر أن حميد دباشي: (مواليد 1951) هو أستاذ الدراسات الإيرانية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك. وهو أحد مؤسسي معهد الاجتماع والأدب المقارن ومركز الدراسات الفلسطينية بجامعة كولومبيا. صدر له أكثر من عشرين كتاباً منها: “الربيع العربي – نهاية حقبة ما بعد الاستعمار” (صدر بالعربية عن المتوسط) و”لاهوت التحرير الإسلامي: مقاومة الإمبراطورية” وكتب عن السينما حيث صدر كتابه عن السينما الإيرانية “لقطة مقربة” بالعربية في دمشق.

 

يذكر أن كتاب “ما بعد الاستشراق – المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب” للمفكر الإيراني حميد دباشي، ترجمه باسل عبدالله وطفة وراجعه ودققه حسام الدين محمد، وصدر هذا الأسبوع عن منشورات المتوسط.

 

المصدر: ميدل ايست اون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى