حوارات متأخرة مع محمد أركون

الجسرة الثقافية الالكترونية

*جهاد فاضل

يؤلف هذا الكتاب الصادر حديثًا في بيروت عن المركز الثقافي العربي تحت عنوان «التشكيل البشري للإسلام» عرضًا أمينًا لفكر المفكر الكبير الراحل الدكتور محمد أركون الذي تمضي الآن أربع سنوات على رحيله. الكتاب عبارة عن محاورات معه أجراها مثقفان الأول عربي هو رشيد بن زين والثاني فرنسي هو جان لوي شليجيل، وقد نقله إلى العربية هاشم صالح. في الكتاب يروي محمد أركون قصة المعركة المزدوجة لحياته كلها. ذلك أنه خاض المعركة على جبهتين اثنتين لا على جبهة واحدة: جبهة نقد العقل الإسلامي وجبهة نقد العقل الغربي.

 

أول ما يلاحظه القارئ لهذا الكتاب هو توفر ما نسمّيه «بالعقلانية النقدية» التي تدلّ على مدى متانة فكر أركون وتعقيده. ففكره على عكس غيره، لا ينحصر في ممارسة النقد التاريخي للتراث، وهي ممارسة يكتفي بها كثيرون، وإنما هو يجيّش كل العقلانيات العلمية والفلسفية بغية نقد العقل التراثي الجامد كما يسمّيه، ولكن نقده للعقل الغربي لا يبدو أقل ضرورة وأهمية. فالعقلانية الغربية أيًّا تكن ضرورتها وأهميتها، تظلّ لها حدودها وليست مطلقة. إنها محصورة بحدود المنطق: ذلك أنه ينقصها غالبًا حسّ النقد الذاتي لذاتها كما أنها لا تستطيع أن تتصور العمق الإنثروبولوجي للأسطورة الخيالية الإبداعية، والعقلانية الغربية لها تجلياتها السيئة كالعقلنة المفرطة، وكالعقل الأدواتي الاستغلالي، وكذلك العرقية المركزية الغربية.

 

كان محمد أركون يحتل موقفًا وسطًا بين ثقافتين: الإسلامية والفرنسية، ولكنه لم يكن «هجينًا ثقافيًا» كما يقول إدغار موران في مقدمته للكتاب، وذلك لأنه شكّل استقلاليته الذاتية انطلاقًا من هذه الازدواجية الثقافية. لقد كان منغرسًا في هذه وتلك ولكنه لم يكن محصورًا لا في هذه ولا في تلك. لقد كان يتجاوزهما عن طريق الانتهاك والتجاوز والتخطي. ومن هنا نتج سوء الفهم أو التفاهم الذي رافق بحوثه. ومن هنا أيضًا خصوبة فكره التي سوف تتجلى أكثر فأكثر في المستقبل.

 

كان محمد أركون فيلسوفًا ومؤرخًا للفكر الإسلامي، وكان أيضًا الأب المؤسس لعلم «الإسلاميات التطبيقية»، ولكنه كان أولاً وقبل كل شيء، أحد أكبر جهابذة المختصين بالدراسات الإسلامية المعاصرة. لكن هذا الوريث الشرعي للنزعة الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري لم يركض قط وراء الأضواء ووسائل الإعلام كما يفعل الكثير، ولم يبحث قط عن النجاح السريع في المكتبات، ولم يتملق الكبار ولم ينحنِ أمامهم.

 

ما كان يقوله محمد أركون عن الإسلام المعاصر لم يكن يروق قطّ للسلطات القائمة في العالمين العربي والإسلامي، ولكنه لم يكن يروق أيضًا لدعاة الإسلاموفوبيا في الغرب، لقد كان يزعج على كلتا الجهتين، ولهذا السبب فإنه حتى لو كان اسمه معروفًا إلى حد كبير ومحترمًا في الأوساط الأكاديمية المطلعة، إلا أن فكر هذا الأستاذ المتقاعد في السوربون لم يُعرف ولم يُنشر ويناقش بالشكل الكافي حتى الآن.

 

يمثل هذا الكتاب مقدمة حقيقية «لأنثروبولوجيا الإسلام» لمحمد أركون. وهي مقدمة كان تنقص إرث هذا المفكر التنويري الكبير. هذا الكتاب الذي أشرنا إليه لمحمد أركون يقدّم لنا مختلف المفاهيم الفكرية التي بلورها، كما يكشف لنا عن مختلف الأبحاث الكبرى التي تغذّى منها واستفاد. وعلاوة على إضاءات غير معروفة عن سيرته الذاتية، فإن هذه الحوارات مع محمد أركون تشتمل أيضًا على حدوسات معرفية خاطفة وساطعة، وهو ما يتيح لفكر محمد أركون أن يظل حيًّا وأن يستمر في الإشعاع.

 

نشير بداية إلى أنه يعود لمحمد أركون فضل جلاء لحظة باهرة في التاريخ العربي الإسلامي هي لحظة مسكويه والتوحيدي وهما فيلسوفان إنسانيا النزعة.

 

في هذه الحوارات يعرّج أركون على اكتشافه هذه اللحظة فيعرضها في حواراته على الوجه التالي:

 

إن كتاب «تهذيب الأخلاق» لمسكويه يندرج داخل الخط الفلسفي الإغريقي، ولكن بدون أن يتخلّى عن المنظور الإسلامي. وهو كتاب فريد من نوعه في العالم الإسلامي حتى في يومنا هذا. تنبغي الإشارة إلى أن الأخلاق كموضوع للعلم والبحث الحر المستقل شيء غير موجود في الفكر الإسلامي.. ويعترف أركون بأنه لم يكن يعرف مسكويه جيدًا في السابق. يتذكر فقط أنهم أثنوا أمامه مرة على كتابه في علم التاريخ والذي يتخذ العنوان الآتي: «تجارب الأمم». وقد عاش في بغداد وأصفهان، وكان أمينًا للمكتبة لدى وزراء عصره الكبار، وبالتالي فما كان بالإمكان أن يقع أركون على كنز أفضل من هذا الكنز، فقد أتاحت له هذه البحوث المعمقة عنه إلى اكتشاف «الحركة الإنسانية» أو حركة الأنسنة في الفكر ذي التعبير العربي إبان القرن الرابع الهجري. وقد كانت هذه الأبحاث وموضوعها في حالة انسجام وتساوق مع دراسته في العلوم الاجتماعية في الفترة نفسها، وكذلك مع دراساته الفلسفية في السوربون.

 

بدءًا من تلك الفترة راح ينبثق توجّهه المنهجي والإبيستمولوجي فيما يخص دراسة تاريخ الفكر الإسلامي. وقد ترسّخ هذا التوجّه وتبلور أكثر من خلال تحضيره لأطروحة دكتوراه الدولة عن مسكويه. وبعد الانتهاء من أطروحته ومناقشتها راح يغطس في دراساته حول الأديان.

 

في حواراته يعود أركون أكثر من مرة إلى مسكويه ومرحلته معه. يسألونه عما إذا كان العقل وحده يكفي أم أنه لا بد من «جانب أخلاقي» مرافق له. فيجيب:

 

– نعم، معكم حق. آه كم هو (أي العقل) بحاجة إلى إخلاق. سوف أُعيد طباعة كتاب «تهذيب الأخلاق» لمسكويه الذي كان شهد في الماضي طبعتين اثنتين. وسوف أرفقه هذه المرة بمقدمة أكتب فيها ما قلته لكم من جملة أشياء أخرى. ينبغي العلم بأن ترجمة هذا الكتاب من الفرنسية إلى العربية شكلت جزءًا من أطروحتي لدكتوراه الدولة، وبالتالي فقد كتبته في ذلك الوقت بهدف مناقشة الأطروحة أمام لجنة تحكيم. ولذلك بقيت حياديًا تجاه عدد من المسائل. ولكن مع ذلك ألاحظ الغياب الكلي لأي تفكير أخلاقي في تراثنا منذ أيام مسكويه، أي منذ ذلك الكتاب الذي ألفه في القرن العاشر الميلادي وحتى اليوم، أي منذ ألف سنة على الأقل. ولا أقول ذلك لكي أوحي بأن الأخلاق المعروضة في كتاب مسكويه صالحة حاليًا أو ينبغي أن نتبعها اليوم. فالخطاب الأخلاقي المعاصر نحن مطالبون باختراعه وابتكاره من جديد. وينبغي أن نخترعه أولًا لهذا الغرب المتبجح بقيمه التي لا تضاهى والذاهب إلى الحرب.. فهو أحوج ما يكون إلى أخلاق!.

 

ولكن ماذا يعني علم الأخلاق عنده؟ يقول: ينبغي العلم بأن علم الأخلاق لا يعني أن نلقي دروسًا وعظية على الناس، وإنما يعني أن نجبر العقل الفلسفي على التفكير بكل صرامة ومسؤولية من أجل بلورة القيم الكونية. قلتُ: «القيم الكونية» التي تنطبق على الجميع وليس القيم المحصورة بالدول القومية أو بالثقافات المحلية المحدودة، ولا قيم القبائل والطوائف الدينية إسلامية كانت أم مسيحية. كل هذا انتهى الآن ولا يمكن أن يعود إلى الظهور من جديد إلا إذا أردنا التقهقر إلى الوراء كما يفعل بعضهم الآن. بمعنى آخر ينبغي علينا أن نبين فشل كل هذه الكيانات المذكورة وتسليط الضوء على أضواء العقل التي تنبثق في العالم.

 

في حواراته هذه يلحّ أركون وإلى درجة الهوس كما يقول هو على محدوديات العقل. «ولكن الفلاسفة بشكل خاص لا يهتمون بكلامي عندما أسمح لنفسي بأن أستجوبهم حول الموضوع. إنهم يردّون بنوع من الاستنكار قائلين ما معناه:

 

«ما هذا الكلام الذي لا معنى له؟ هذا الشخص ليس فيلسوفًا ومع ذلك فإنه يسمح لنفسه بأن يتدخل في الشؤون الفلسفية ويتحدث لنا عن المستحيل التفكير فيه واللامفكّر فيه. ينبغي أن يعلم بأن القضية هي مسألة جدلية اجتماعية تاريخية فكرية ثقافية قبل كل شيء. وهذه الجدلية في كل طور من أطوار تاريخ العقل كانت قد تجلت في كل مناطق العالم وفي كل الشعوب وكل الثقافات». وبالفعل – يرى أركون- أنهم لم يكونوا مخطئين، فالأمر يتعلق بجدلية اجتماعية تاريخية بالفعل. لماذا أقول جدلية؟ لأن هناك علاقة ديالكتيكية جدلية بين شيئين: المفكر فيه من جهة واللاّ مفكّر فيه من جهة أخرى. وفي كل عصر أو جيل يتاح للعقل أن يفكر في أشياء معينة ويستحيل عليه أن يفكر في عداها. وبالتالي فهناك محدودية للعقل أو محدوديات ينحصر داخلها بالضرورة في كل مرة. نطاق العقل في العصور اليونانية الرومانية القديمة غير نطاقه في العصور الوسطى وغير نطاقه في عصر النهضة وغير نطاقه في عصر التنوير وغير نطاقه في عصرنا الراهن. هناك نطاقات متتالية أو دوائر متتالية للعقل، ولكن نطاقات المفكر فيه واللامفكر فيه ليست مفروضة من قبل الأرثوذكسيات الدينية والأخلاقية فقط، وإنما هي أيضًا ذات طابع فكري وثقافي ملازم أزليًا للعقل. فالعقل يسبح داخل نطاق لا يستطيع إطلاقًا أن ينتهكه أو يتجاوزه إلا إذا خاطر بنفسه أو عرض نفسه لانهيار. وهذا الشيء لا يزال دائمًا بالنسبة إلى العقل الإسلامي منذ عام ٦٣٢ ميلادية وحتى اليوم. بل الأمور تفاقمت في عصرنا الراهن إذ يسود الاعتباط والتعسف والفتاوى العشوائية في العالم الإسلامي بالإضافة إلى العنف السياسي والديني الذي لا اسم له والذي يتجاوز الحدود.

 

إذن فالعقل أيضًا لا نستطيع أن نعتمد عليه لكي ينقذنا؟ يجيب أركون:

 

العقل ليس عاجزًا كليًا. هو يستطيع أن يكشف أشياء ويقول أشياء عديدة.

 

أنا شخصيًا أحد الأمثلة على ذلك. ولكن هذه الحرية في التفكير والكلام لا علاقة لها بالفلسفة بحد ذاتها، وإنما هي مشروطة بالظروف السائدة التي هي اجتماعية وتاريخية وسياسية وليست فلسفية. أضرب على ذلك كمثل أنا شخصيًا. في البداية وجدت نفسي داخل التراث الإسلامي التقليدي الذي تربيت عليه، ولكن حصل لاحقًا أن امتلكت الأدوات والإمكانات للخروج منه والتفكير بشكل مختلف وعندئذ اكتشفت معنى محدودية العقل والحضارة داخل إطار معين لا يستطيع تجاوزه. عندئذ اكتشفت معنى التمييز بين المفكر فيه واللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه في فترة ما من فترات التاريخ. قد يُستفزّ العقل وتنشأ حوافز له من أجل تحقيق المزيد من الجرأة في تحليلاته وكشوفاته.

 

ويسأله محاوره: ما هو الدور الذي يؤديه الشعراء والروائيون في المجتمع. يرى أركون أن المرء عندما يعيش بكثافة حالات وجودية معينة ويخلع عليها اسمها، ويعّبر عنها بالكلمات، فإنه يغني اللغة والذكاء البشري.

 

هذا ما يفعله الشعراء، «أقول ذلك وأنا أفكّر ببودلير وانتفاضته المتمردة العارمة على المجتمع وتقاليده الامتثالية في فرنسا إبان القرن التاسع عشر. ولذا فإن شعره فتح العالم وانتشر في شتى أصقاع الأرض. منذ أن كنت قرأته لأول مرة وفهمته فإنه يسكن في داخلي، يرافقني، يعطيني القوة والطاقة والحيوية. بمثل هؤلاء الشعراء الكبار أحلم للجزائر والمغرب الكبير والعالم العربي كله. ينبغي العلم بأن هذه البلدان تشكل جزءًا لا يتجزأ من الفضاء المتوسطي أو من حوض البحر الأبيض المتوسط. إن طريقة استعمال اللغة والفكر في الفضاء المتوسطي خلّفت لنا إرثًا أدبيًا وثقافيًا كبيرًا أؤمن به وأعتزّ. إن هذه أشياء أكبر من الأخلاق أو علم الأخلاق. إنها تراثات ثمينة جدًا تتيح لنا أن نذهب دائمًا إلى ما هو أبعد. إنها تساعد العقل على انبثاقه المتجدد باستمرار.

 

على أن مثل هذه الومضات الأدبية قليلة أو نادرة في محاورات محمد أركون. فالحوار معه أنصبّ أساسًا على قضايا فكرية أو بحثية أو فلسفية. هذه القضية بالذات هي مجاله الأول، وربما الأخير أيضًا، رغم أنه تحدث بصورة جيدة عن بودلير وقال إنه تأثر به وأنه يحلم بشعراء من طرازه للجزائر والمغرب والعالم العربي.

 

يتحدث عن «إعادة البناء» وهي عبارة عن مصطلح إيديولوجي يلجأ إليه بعض المفكرين الآخرين ومنهم جماعة «الخطاب القوموي» المتعصب، عندما يقولون: لقد محا الاستعمار أفضل منجزات تراثنا، وبالتالي فإنه ينبغي علينا أن نعيد تركيب هذا التراث بعد كل هذا الاجتياح البربري للغرب الاستعماري. هذا التراث في منظورهم كانت له أنواره منذ زمن طويل، بل وسبق أوروبا إلى عصر الأنوار لأنه منذ البداية كان مستنيرًا. فما حاجتنا إذن إلى الأنوار الأوروبية؟ نحن مستنيرون خلقة. حاولوا زرع هذه الأفكار في أذهان الشباب في المغرب والجزائر وبقية أنحاء العالم العربي، وقالوا للجميع: «ينبغي أن نعود إلى التراث، إلى مصدر وأصل كل شيء”. من هنا نتج مصطلح الأصالة، وهم بذلك يتصرفون وكأن هذه الأصول التراثية لا تطرح ألف مشكلة ومشكلة بالنسبة للإنسان المعاصر الذي يعيش في ظل المجتمعات الحديثة، بل إنها تطرح مشكلة حتى بالنسبة للناس الذين عاشوا في القرون القريبة من ذلك الحدث التدشيني.

 

ويسأله محاوره عما إذا كان يرى أن رؤساء المذاهب الأربعة هم المسؤولون عن الانغلاق الذي يأسف عليه، فيردّ بأنه لا يوجد سبب واحد للانغلاق والجمود. لا يوجد عامل واحد أدّى إلى هذا المصير المؤسف الذي وصل إليه الوضع. هناك عوامل متعددة، ونحن نجد أنفسنا أمام صيرورة معقدة. ولكن رؤساء المذاهب هم السلطة العقائدية العليا التي فرضت نفسها بشكل كامل وحصري. مثلًا نجد لاحقًا أنه داخل المالكية والشافعية والحنبلية، فإن أصحاب الفتاوى أو القوانين سوف يحيلون إلى رئيس مذهبهم فقط. إذا كان الشيخ المفتي مالكيًا، فسوف يعتمد على آراء المذهب المالكي فقط، وإذا كان شافعيًا سيفعل الشيء نفسه.. وهكذا. وعلى هذا النحو أصبح الإمام المؤسس للمذهب عبارة عن ذروة عليا للعلم والمشروعية الفقهية. لقد أصبح رمزًا أعلى على المذهب كله. وأصبح المؤمنون يعتقدون أنه فعل كل شيء واخترع كل شيء ولا زائد لمستزيد بعده ولا حاجة للاجتهاد. وكانوا يعتقدون بأنه فعل كل شيء بطريقة صحيحة كليًا إلى درجة أنه لا ينبغي أن نشغل عقولنا بعد الآن ونناقشه، وإنما ينبغي علينا أن نكتفي بالتعليق عليه وشرحه واستخدام ما أنتجه من فتاوى شرعية هو وتلامذته المباشرون. ولم تعد الأجيال التالية من المسلمين تشعر بالحاجة إلى إعادة قراءة شيء واستنتاج شيء آخر أكثر جدّة وابتكارية مما استنتجه إمام المذهب نفسه. وهذا ما أدّى إلى إغلاق باب الاجتهاد: أي إغلاق عملية التأويل والتفسير والتجديد ومسايرة المتغيرات والتطورات. وكلما تقدمنا في الزمن إلى الأمام حصل خلق لحجاب حاجز، لذروة عليا للمرجعية، للمرور الإجباري بأئمة المذهب، سواء في مجال علم الكلام أم في مجال علم النحو والقواعد أم في مجال الفقه والتفسير. وفي نهاية المطاف ينتهي المسلم بالخضوع إلى إمام واحد. هؤلاء برأيي هم عبارة عن مؤسسين رمزيين. لماذا أقول ذلك؟.

 

وتطور الأمر بعد ذلك. أصبح واجبًا على المسلمين أن يتبعوا مرجع التقليد كما يقول الشيعة. وهذا الدور يقوم به الآن آيات الله الكبار. أما في الجهة السنية فقد فرضت هيبة الفقهاء نفسها. ولكن لن يعود هناك علماء كبار في حجم الأشعري. ومعلوم أن عقيدته كانت اعتُمدت في نهاية المطاف من قبل الكثير من المذاهب الفقهية. كان الأشعري معتزليًا تائبًا عن مذهب الاعتزال، وكان مضطرًا بالضرورة إلى المجادلة معهم، أي مع أصدقائه القدامى الذين انفضّ عنهم. ثم أصبح أكثر أرثوذكسية، بل وحتى أصبح حنبليًا، طبقًا للتحول العام الذي أصاب الفقه والمذاهب الفقهية في عصره. وكانت له سلالة وأتباع، ولكنها راحت تنطفئ تدريجيًا. ولا يوجد علم لاهوت جاد في الإسلام في الوقت الراهن.

 

ويتحدث أركون في حواراته عن جمود فكري ران على الإنتلجنسيا الفكرية. ثم في نهاية القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر ظهر في مصر مصنّف ضخم متبحر في كل العلوم الدينية هو جلال الدين السيوطي. كان السيوطي يكتب نوعًا من الموسوعات عن كل حقل كبير من حقول المعرفة الدينية. كان يؤلف مجلدات ضخمة تشكل نوعًا من الحصيلة الختامية للدراسات القرآنية التي تّمت حتى القرن السادس عشر، أي حتى عصره بالذات. إن مؤلفات السيوطي الضخمة تتيح لنا أن نشكل فكرة عما كان لا يزال يحصل في القرن السادس عشر. ولكن عندما نطلع على مؤلفاته ندرك فورًا أنه يعتمد بشكل خاص على ما أنجز في المرحلة الكلاسيكية المبدعة، ونرى أنه لم يضف إليها إلا القليل جدًا فيما بعد.

 

لم يضف أي شيء يمكن أن يُغيّر الأمور بالقياس إلى كبريات التفاسير القانونية أو الشرعية.

 

نودّ أن نشير إلى أن محمد أركون أنجز هذه الحوارات وهو في الهزيع الأخير من حياته، لأنه بعد سنوات قليلة سيودّع هذه الفانية وسيدُفن في مقبرة في الدار البيضاء بالمغرب، هي نفسها التي تضمّ أيضًا رفات مفكر وباحث نهضوي مثله هو الدكتور محمد عابد الجابري صاحب الكتب الشهيرة في نقد العقل العربي أو العقل الإسلامي. كلاهما كانا عالمًا وباحثًا كبيرًا ومجدِّدًا في آنٍ. ومن الطبيعي أن يتفقا وأن يختلفا في أمور كثيرة. أركون كان يقيم في فرنسا ومعتمدًا أدوات معرفية صارمة في نقدها للتراث، في حين بدا الجابري مجدِّدًا حريصًا على إحداث حركة تجديد واسعة، ولكن في «إطار إسلامي» وفي عدد قادم نتابع عرض الفكر الأخير لمحمد أركون، وكذلك لرأيه بعدد من معاصريه ومنهم إدوار سعيد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى