«خلفي شجر الزيتون» لباسكال أبو جمرة.. بساطة اللغة وثقل الأسئلة

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير
سؤال الماضي مُلحّ. ثقل الماضي أيضاً. سؤال العلاقة بين ماضي الأهل وراهن الأبناء. ثقل هذه العلاقة أيضاً. «خلفي شجر الزيتون» لباسكال أبو جمرة محمول على ثقلين اثنين: الماضي والعلاقة. فيلم قصير، مشغول بنَفَس سينمائي واضح، صورة وتوليفاً وكتابة وإخراجاً. مشغول بحساسية فنية مستلّة من أعماق ذات وروح وأسئلة معقودة على هذين الثقلين. المساحة الجغرافية بطبيعتها وناسها وحكاياتها حاضرة بفعالية بصرية متلائمة وتلك الحساسية. البساطة جزء من اللعبة الفنية. ركيزة أساسية لبناء سينمائي متماسك وشفّاف وعميق. البساطة في اللغة المستخدمة في صناعة الفيلم، وفي السرد الهادئ، الذي يكشف تفاصيل الحبكة رويداً رويداً.
يحمل «خلفي شجر الزيتون» ثقل حالة لبنانية مثيرة لجدل ناقص. حالة لبنانية محتاجة إلى نقاش جذري، يتناول السياسة والأمن ـ العسكر، لكنه يتجاوزهما حُكماً ليغوص في المعنى الإنساني للحالة نفسها، وفي تداعياتها وآثارها. ليصل أيضاً إلى أصل الحكاية، أو إلى أحد أصولها: العلاقة القائمة بين الأهل والأبناء. إرث الأهل ونكبة الأبناء بإرث لا علاقة لهم به. الأب جندي في «جيش لبنان الجنوبي»، المتعامل مع الجيش الإسرائيلي أثناء احتلاله جنوب لبنان على مدى 22 عاماً. الانسحاب الإسرائيلي في 25 أيار 2000 هجّر عملاء وعائلاتهم. الإقامة في إسرائيل مُرهِقة. العيش في عائلة مفكّكة، أو شبه مفكّكة، قاس. هذا كلّه لا يظهر على الشاشة. هذا كلّه سابقٌ لأصل الحكاية. الأصل مكتوبٌ بدءاً من فعل العودة إلى دير ميماس، قرية الأهل. مريم (باسكال أبو جمرة) تعود إلى قريتها بعد سنين. ابنة الأعوام الخمسة عند المغادرة كبرت وعاشت في إسرائيل. الأب سكّير. الأم غائبة. العودة إلى البلد ـ القرية مكلفة. العودة بدت، لوهلة أولى، صعبة. لكنها باتت، لاحقاً، مستحيلة. لم تعثر مريم على مكان لها في إسرائيل، ولا في العائلة. لم تعثر على مكان لها في قريتها أيضاً. هذه لعنة. عودتها كانت برفقة شقيقها المولود في إسرائيل. الرغبة في بدء حياة جديدة دافع. الرغبة في خلاص من حياة قديمة دافعٌ أيضاً. لكن الرغبة وحدها لا تنفع ولا تكفي، وإن كانت صادقة. العمالة لا تُبرَّر أبداً. لا تُغتَفر إلا بعد اعتراف صادق وحقيقي بالجريمة (والتكفير عنها ربما)، وطلب التسامح. لا علاقة للابنة بهذا كلّه. لكن ثقل الماضي ضاغط. أبناء القرية يعرفون، ولا يسامحون. يعجزون عن إرغام الأب على دفع ثمن الخيانة، فيجدون في الابنة أداة انتقام ملعون. ثقل العلاقة بين ماضي الأهل وراهن الأبناء ضاغط. تُرى، كيف السبيل إلى النفاذ من البؤس، ماضياً وحاضراً؟ كيف السبيل إلى الدخول إلى البلد، من دون الخروج من الحياة؟
«خلفي شجر الزيتون» حكاية لبنانية لم تُرو فصولها كلّها بعد. سؤال لبناني أساسيّ لم يُناقَش، ثقافياً واجتماعياً وفكرياً وأخلاقياً وإنسانياً، كما يجب. الفيلم القصير تكثيف دراميّ لسؤال كبير وعميق. السينما حاضرة فيه. مشغولة بأسلوب سلس وهادئ. مصنوعة ببساطة تشي بحجم السؤال وثقله. لكن السؤالين والثقلين الأساسيين محتاجان إلى نقاش حقيقي، في السينما وخارجها معاً.