خليل صويلح يختبر الندم في متاهة الحرب

نبيل سليمان
حبلُ الضجر يلتف حول عنقه، وربما كان الضجر أحد أسبابه في تطريز عباءة العزلة والتدثر بها. إنه الراوي في رواية خليل صويلح «اختبار الندم» (دار نوفل -هاشيت انطوان 2017) الذي أضناه وحش الضجر، وغربة الضجر، وضجر الوقت أمام الحواجز في دمشق الحرب. وهذا الراوي لا يحمل اسماً، شأنه في روايات خليل صويلح. ولكن ليس لهذا فقط، ولا لأنه غالباً ما يروي بضمير المتكلم فقط، يجعل الرواية تنادي السيرة، لتكون سيرة روائية أو رواية سيرية، وليس سيرة ذاتية، وذلك بفعل التخييل فيها، وبفعل اللغة الشعرية غالباً، أيضاً، وهو التخييل المجبول بالحرب السورية التي سبق للكاتب أن خصّها بروايته «جنة البرابرة»، لكنه هذه المرة يجيء بآلية مختلفة لتكون الذات هي الحاكمة للنص، والمحكومة بامتياز بسنوات الجحيم التي بدأت بمن هز أغصان الشجرة، فتناثرت الثمار من حولها، ثم أتى آخرون، وسحقوا بأحذيتهم الثقيلة تلك الثمار، ثم أحرقوا الشجرة.
تلك هي السيرة السورية المتفجرة منذ عام 2011. إنها الجحيم الذي لا يقل وطأة عن جحيم المعري، بل هي سينوغرافيا مسرحية باذخة لحشود تائهة بين برزخي الجنة والنار، بل هي تمرد وفوضى، فناء وعدم، زلزال أو لعنة إلهية. وعبر ذلك جرب الراوي كل أنواع الصبر، لكنه لا يعلم كيف احتمل تدابير هذه (الوليمة المتنقلة) من القتل والمذابح والمقابر الجماعية والمجاعات وعنف الأرواح، ما قذف بأفكار الرجل بعيداً، فما عاد وارداً أن يكتب رواية الغراميات المرحة وسط الجحيم اليومي.
هذا الراوي الذي يكتب الرواية، سيأخذ على أسمهان مشعل أنها توحد بينه وبين بطل رواية له. لذلك يحسن أن ندع خليل صويلح خارج النص – إلى متى؟- وأن نتابع هذا الذي يحدد حاجتنا إلى معجم جمالي يفسر كيفية الجمع بين ثقل بلطة حادة من مخلفات القرون الوسطى، وتقنية القنابل الذكية في صفحة واحدة.
اللغة الميتة
بالطبع، لن يعدم هذا الراوي، بل الكاتب نفسه، معارضاً لوذعياً يصم هذه اللغة (الزلزال، المعجم الجمالي) بالالتفاف على الثورة، وبمهادنة النظام. لكن رواية «اختبار الندم» تمضي مخلفةً جثة اللغة الميتة، لغة المحطات الإذاعية المحلية، واللغة الهجينة المحمولة على فحولة راسخة في المرويات الشعبية، ولغة خطباء الجبة الكرنفالية. وتحدد «اختيار الندم» حاجتنا إلى نفض الغبار عن اللغة أولاً، كي ندرك المعنى الحقيقي والعميق للزلزال.
تجمع صفحات التواصل الاجتماعي بين الراوي وبين الشاعرة أسمهان مشعل، المقيمة في قريتها إثر طلاقها الذي توّج سبع سنوات من العشق، فالزواج. وقد أخفق الراوي معها أول مرة تحت وطأة صورة الشابة الإيزيدية بهار مراد التي اغتصبها ثلاثون تكفيرياً في يوم واحد. وسيفزع هوس أسمهان العاطفي الراوي الذي كان يحسب أنه بصدد نزوة معها، كعلاج موقت للضجر والاكتئاب والخذلان. وستجمع صفحات التواصل الراوي أيضاً بنارنج عبد الحميد المشاركة في ورشة لكتابة السيناريو يديرها الراوي. وستروي نارنج له قصة مشاركتها في التظاهرات السلمية، فاعتقالها نتيجة إيقاع صديقها حسام بها – والآن هو لاجئ سياسي في ألمانيا – فاغتصابها في المعتقل، وقضم الجاني لنصف أذنها، وحملها منه، فإجهاضها، حتى صارت مثل عربة إسعاف متأخرة تجر خلفها عشرات الجثث قبل أن تودعها ثلاجة الموتى. وتشتبك مع قصة نارنج قصص فرعية، منها ما تكتبه في يومياتها عن المعتقلات اللواتي عرفتهن، ومنها قصة فتاة حي الشعلان التي ظلت ميتة أياماً في بيتها، حتى نهشها كلباها، وقصة يارا بغدادي التي شنقت نفسها في حيّ دمّر بسبب الوحدة. ولذلك وسواه ينعت الراوي دمشق بالمدينة المتوحشة «أهذه مدينة أم غابة وحوش؟» لا يلتفت فيها أحد إلى عزلة آخر. ومن الشوارع، إلى دوائر الدولة، إلى عسكر الحواجز، إلى وجوه سائقي التكسي، إلى حراس البوابات الإلكترونية في الفنادق، إلى وشم العضلات المنفوخة للص سابق يزهو بثياب عسكرية ملطخة بالشعارات الوطنية، إلى…
إنها «متاهة اللامعنى»، حيث تخلتط صور الموتى بصور مغنّي الملاهي، وحيث البيرسينغ للشابات، وثقافة البورنوغرافيا كنوع من الاحتجاج والتمرد، وفي فضاء المقهى تدخن المحجبات الأراكيل، ويرابط المحامي الوسيط بين محكمة الإرهاب وذوي متهم ما، ومن خلف الستار يشارك في هذه «العملية» قضاة ورجال دين وزعماء عشائر ورجال أمن… وفي الشوارع تطلق سيارات الشبيحة ليلاً أغاني مقتبسة من لطمياتٍ ومراثٍ قديمة تستعيد روح الحسين. وإزاء هذا الانفجار بالصور الفاجعة، تترك الرواية للسخرية مطرحاً، كأن تجعل بودريار يلعب النرد مع ابن تيمية تحت شجرة مشمش في غوطة دمشق، أو أن تدع كمال علوان يوقّع للرواية بمشروع كتابه الخلّبي عن تقويض إسمنت الدولة، ويحدّث أنه ما إن يذهب ماركسي إلى المرحاض لتفريغ مثانته من فائض القيمة، حتى يجلجل ابن تيمية… والحال كذلك، يقول الراوي: «أنا خردة»، ويرى كل ما يحدث له وحوله نوعاً من الهلاك البطيء، وسيركاً عبثياً، فيه «المسلخ البشري» واختزال الضحية إلى بطاقة هوية يستلمها الأهل، بينما تلف الضحية ببطانية قذرة إلى الحاوية ليلاً، وتسحب البطانية لاستعمالها ثانية. وفي السيرك شاحنات وأسطح مكشوفة، حيث الأقفاص تحشر مئات المخطوفين لدى الكتائب المسلحة دروعاً لحماية دوما أو حرستا في سوار دمشق من قصف الطائرات. وقد عادت الرواية إلى هذا الشطر من السيرك في منتهاها، حيث تفتح شخصية الترجمان الروسي السرد إلى شاحنة تجوب شوارع حرستا بقفص معدني ضخم، يُزَجّ فيه دوستويفسكي، حيث ينتظره تولستوي وبوشكين وتشيخوف وماياكوفسكي وإيتماتوف، ومعهم آنا كارنينا، على رغم أنه ليس في حرستا قطارات كي تنتحر آنا فوق السكة.
ظاهرة التعفيش
من إحدى ضواحي دمشق – لا يسميها الراوي – جرى تهجير الترجمان الروسي الذي بات ملازماً لمكتبات الأرصفة، حيث استشرت ظاهرة التعفيش، وامتدت إلى الكتب. ومثل هذه الشخصية، تتقد الشخصيات الثانوية في الرواية مثل سميح عطا، الأرشيف الحي لمسرح أبي خليل القباني، وحارسه الذي صار المسرح مقامه بعد التهجير، ويلعب في فيلم قصير تعده نارنج والورشة، دور آخر حكواتي في دمشق (رشيد الحلاق) مات قهراً إثر حرق جماعة تكفيرية – لا يسميها الراوي كما لن يسمي أخواتها – لكتبه القديمة.
من النادر أن تلفح النفجة شخصية الراوي، وهو ما يتبدى في العرض الثقافي مثله في العلاقة مع المرأة. ففي الرواية معرض للكتب (أفول الأصنام لنيتشه، سد هارتا لهيسه، الجنس والفزع لباسكال كيتار، اللاطمأنينة لفرناندو بيسوا… وهذا الكتاب الذي ينازع خليل صويلح تطويب خيري الذهبي له: مسامرات الأموات للوقيانوس السيسماطي). وفي الرواية معرض للأفلام، ابتداءً بالفيلم الذي يلوح لعنوان الرواية: الندم للمخرج الجورجي تنجيز أبولادزه، مع التوكيد على رسالة الفيلم: دفن الماضي يعني الصفح عمن دمروا حيوات الآخرين، وهو ما لا ترضى به من تنبش جثة رئيس البلدية إثر كل دفن. وتبدو نارنج إزاء من اغتصبها وقضم نصف أذنها كتلك المرأة، بينما يريد لها الراوي شفاءً من الماضي، وهذه الحالة تخاطب ما هي فيه سوريا منذ استشرى فيها عنف الجميع.
صورة شعاعية
مع المرأة يسيطر الراوي على نفجته، كما يتبدى بصدد محاولاته مع المصورة جمانة سلوم، صديقة صديقته أسمهان، إذ يفترض أنه لم يخطر لها أن تقيم علاقة معه، وإنما هي أوهامه «كطراز شائع من أمراض الذكورة». وهنا ينبق تبرير أية علاقة شهوانية كطوق نجاة من تبعات حرب قذرة. ولا يكتمل هذا الشطر من سيرة الراوي بثلاث نساء من حاضر الحرب، فيعود إلى أمسها القريب وهنادي عاصي الفنانة التشكيلية التي وقّعت على بيان للمثقفين ضد عسف السلطة حيال الحراك السلمي، فتخفت خوفاً، ثم هاجرت، وزلزلها الزلزال فتحولت الكائنات الأليفة في لوحاتها إلى وحوش مفترسة. غير أن هذا الشطر من سيرة الراوي ينتهي به إلى فاجعة هجرة نارنج إلى ألمانيا، ثم انقطاع أخبارها. فبسفرها ما عادت الأخريات يعنينه، وبسفرها يحاول اختبار الندم بعدسة أخرى – عنوان الرواية – ويجرب جحيماً آخر، مخلفاً جمانة التي يرى أنها تكتب بالصورة تاريخاً مضاداً للحرب، وهذا بحسبانه أقصى ما ينبغي عمله في أزمنة الجحيم للشفاء من مرض الكراهية.
يشبّه الراوي سوريا الحرب بصورة شعاعية لرئتي مدخن مزمن، لم يعد فيها مكان للأوكسجين. وتشبّه نارنج سوريا الحرب بالمصحّة، بينما كانت تفكر بفيلم عن بلدة الممرضة ريم صابوني، حيث ذبح ملثمون مسلحون ثمانمئة ضحية. وما ذلك ، كما يحدد الراوي، إلا الفايروس الذي يتسلل إلى أرواحنا، ويفتك بخلايانا، والمصنوع من زرنيخ البغضاء وماء الضغينة وحليب الكراهية.
على رغم أن الرواية تتبأر في دمشق، فهي ترمح إلى بلدة الكاتب الشدادة في أقصى الشرق السوري الذي سيطرت عليه جماعة إسلامية متشددة، لا تسميها الرواية أيضاً، وما هي إلا داعش. وكذلك ترمح الرواية إلى اللاذقية، حيث تحولت سينما أوغاريت إلى معتقل، مما رأى فيه الراوي بذرة فيلم للورشة التي يديرها. وتمضي الرواية أبعد مع التهجير واللجوء فتبلغ كيب تاون وانتحار الشابة الكاتبة نايا مروان، أو وفاة المخرج رياض شيافي باريس، ووفاة الفنان محمد وهيبي، اللذين يرثيهما صديقهما الراوي: فلنقلْ أخيراً: خليل صويلح، ولندعْ الراوي ينبش مشروع رواية كان قد أوقفه منذ سنتين، حذراً من الانزلاق إلى مناطق خطرة (ما هي؟) وارتباكاً بين استخدام ضمير المخاطب أو ضمير المتكلم، وهما ما استخدمتهما «اختبار الندم» وإن تكن الغلبة للثاني، انسجاماً مع ما يراه الراوي – مثل كثيرين – من أن كل رواية هي في شكل ما سيرة مجتزأة، وربما سيرة مشتهاة، لكنها ليست النسخة الأصلية.
(الحياة)