خيل تايهة لإيهاب زاهدة وعدنان العودة: ما هو أبعد من كسر النبوءة والغيبيات

الجسرة الثقافية الالكترونية

تحسين يقين *

المصدر / عمان

العاصفة تأتي بها، وتذهب!
ما أن تنتهي رحلتا تايهة وابنتها خيل، حتى تبدأ رحلتنا الفكرية والشعورية!
هل من رمزية للاسم: خيل-تايهة، خيل تايهة؟
نخرج من العرض وقد بنينا القصة، فننشغل ببناء الأفكار التي أوحى بها، أو التي نبنيها نحن وفق ما نتلقاه، فللمشاهد حرية التلقي أيضا، والسؤال الوجودي: هل من تجاوز لكل هذا التيه!
مقدمتان غنائية وشعرية:
أما الغنائية فكانت:
خيل سمُّوني وسابوني ويَّا الخيلْ
ما نِشْفن عيوني مِنْ سافر بها لليلْ
خيل آنا إسمي واسمي بلا خيّالْ
حيث تصاحبنا الممثلة-الساردة والمغنية ريم تلحمي، في الغناء في أكثر من مشهد، وهي أغان رثاء، تضرب عميقا في التراث العربي الشعري الكلاسيكي.
أما الشعرية «عندما تزدادُ الحياةُ تعقيداً اضرب بها ضرباً بفيضِ الخاطرِ الولهانْ
واشتري الدنيا طرباً فالحياةُ سرٌّ والكونُ حنانْ»
بيتان من الشعر للمعلم الفلسطيني محمد القدسي ابتدأت بهما خيل الساردة لقصتها وقصة أمها وقصص لآخرين.
وسواء ذكرتها خيل تمثيلا على خشبة المسرح، أم روتها «تايهة» عن ابنتها وهي صغيرة، فإن الشعر هنا استفزنا في المسرحية كي نربط البداية والنهاية، في اكتمال الدائرة الدرامية التي أرادها المخرج إيهاب زاهدة، حين كرر في بداية المسرحية ما ذكر في النص في الربع الأخير.
والدائرة الموجودة من خلال الخيط الدرامي، جعل عبارتها بمثابة عنوان موحي للجمهور، الذي سجد نفسه طوال العرض مفكرا بها ودلالاتها الوجودية والفلسفية. فكما هي خيل «حفظتها خيل عن ظهر قلب، وكانت ترددها على مسامعي مع إنُّو ما كانت فهمانة منها شيء»، إلا أننا من منظور مسؤولية الالتزام الإنساني مدعوون للتفكير الجدي بها، لفك العقدة والتعقيد الذي وجدنا أنفسنا فيه طوال عشرات السنين التي تجاوزت القرن ونصف القرن، منذ إرهاصات النهضة والتنوير ونحن نُعدّ أنفسنا لها ونمنيها بها أيضا!. لقد أضاف المخرج المبدع للمقدمة ما كان في المشاهد الأخيرة إذن كي نحمل الأسئلة معنا ونحن نشاهد من البداية، لنحاول العودة بالأجوبة عند الانتهاء من العرض.
الحكاية

القصة قصة خيل وأمها أو قصتهما معا بل وقصتنا كيف؟
تحيا الطفلة البدوية سنواتها الأولى في مضارب قومها، مسرورة بتفاصيل العيش في كنف الأهل، فلها العبث الطفولي البريء، ولها انتظار البيضة، وتسريع الحصول عليها، ولها أسئلتها النفسية عن الذكورة والأنوثة، التي تجابه بالنهي عنها، تكتشف عالما صغيرا جدا هو عالمها الكبير، لتسوقها رياح الطوز(الخماسين) وهي ذاهبة لإحضار مشط الشعر لأمها إلى حكاية أخرى وعالم آخر له أسئلته المختلفة حينا والمتشابهة حينا آخر. تجلبها العاصفة ليس من مكان إلى آخر، بل من زمان إلى زمان آخر، من خلال عيشها الجديد في قرية، مع أب جديد هو هويدي أشهر سايس خيول في عشاير الشوايا، وهناك تبدأ رحلتها، حيث يطلق عليها اسم «تايهة». وبعد عقدين تكبر تايهة، يحاول والدها الثاني الذي تبناها عشرين عاما أو يزيد أن يكشف حقيقة أهلها، حين دنا من الرحيل، فيفاجأ بأن أهلها هم الآخرون ماتوا من رياح الطوز خنقا. فيقول لها وهو على فراش الموت:
-انت أهل حالك!
يترك لها الخيول والأرض، لتلتقي بهوزان الكردي، وهي تبحث عن «دراسة الحبوب» لتدرس غمائر الحنطة على بيدر المحيسن، ولا يمرّ عام إلا وهما زوجان، فيكيد له أهل المحيسن كونهم شعروا بأنه – وهو الغريب- قد فاز بتايهة والأرض والخيول معا فيقتلوه مدعين القتل الخطأ. تود تايهة أن تنجب صبيا يثأر لوالده، لكنها تضع أنثى، لتبث القابلة القودرية نبوءتها: « وجهك حجر وصوتك خدر وما تكملين الثلاثين»، و«مدت لسانها بتمها الزغير وقالت: هذا منشان تطلعي مثلي قوالة ولسانك ميزان». تسمي تايهة ابنتها خيل، بسبب جموح الخيل في ليلة الولادة، وربما لذلك رمزا سياسيا، عن اضطراب الحكم في تلك الفترة وتتابع الانقلابات.
الاستسلام للنبوءة والتخلص منها

من يومها، تربي تايهة طفلتها وتتابع أمر نبوءة القودرية، حيث يتحقق الجزء الأول (وجهك حجر) حين تنكسر يد خيل، وحين يقوم المجبّر بتجبيرها لا تبكي، لتلحق بها النبوءة الثانية(صوتك خدر) بعد بضع سنوات حين سحرت خيل جمهور المحتفلين في المدرسة، حين عدلت عن الأغنية الثورية إلى لحن رثاء، ففاضوا بالدمع؛ فتستسلم تايهة، للنبوءة وتصدق بها، لتتأثر خيل بذلك التي تنتظر سن الثلاثين كسن النهاية!
تموت الأم تايهة، بما أتى بها، تختنق بالطوز مثل أهلها، فتهجر خيل المحيسن إلى القاسيون بدمشق لتكمل تعليمها، وهناك تجد نفسها في مكان جديد وزمان جديد، وتلاحظ حالة الركض والتيه في المدينة، وهي التي كانت ترى فيها خلاصها.
هوزان والد خيل كان يرى الخلاص في التعليم، وتايهة كان همها ان تخلص خيل من النبوءة:
«تايهة وهي عم تشيعِّ بعيونها بنتها الِّلي راحت تتعلم تأكدت إنها عملت خير لمَّا رمت حبل خيل السري بالمدرسة لإنُّو بينلها من الأول إنُّو بنتها رح تتعلق فيها كتير، وهيك رح تقدر تكسر الشطر التالت من نبوءة القودريَّة المتعلق بإنو خيل ما رح تعيش فوق الثلاثين، لإنُّو متل ما فِهْمَتْ من المرحوم هوزان إنُّو المتعلِّم عمرو أطول من عمر الأمِّي وعالمو أوسع».

لماذا قصتنا؟

لأننا إذا لم نتلق المسرحية بعمق إنساني وحضاري، فإننا سنقلل من أهمية هذه المسرحية، والتي من خلال الأدب، تشخص حالتنا الفكرية وتشظينا أيضا. ليست القصة للتشويق، بل للتفكير، ولتجاوز الشخوص إلى الأوطان والأمم وهي في رحلتها للخلاص الحضاري.فهل كانت القرية خلاص البدو؟ وهل كانت المدينة خلاص القرية؟ أم هي حالة من التيه الحضاري، في ظل اختلاط هويات الأمكنة، وسوء الإدارة والحكم؟
تعامل الدولة مع القرية مثال على ذلك حن أهملت الأرياف والقرى: « بالأخير، تذكَّرت الحكومة قرى السهل الِّلي كانت نسيتها طول عشرات السنين، فقرَّرت إنُّو تبلش بتخديمها بالطرقات والكهربا بلكي تقدر تلحقِّها بالقرن العشرين»
فحالة الإيمان بالغيبيات « وجهك حجر وصوتك خدر وما تكملين الثلاثين» لائمة تيه المدينة بشكل خاص، فتكتشف خيل كذب النبوءة حين شمس الواحد والثلاثين، وتكتشف زيف المدينة التي تركض وراء الوهم، غير محققة المدينة المنشودة أو المدينة السعيدة..! فتعود إلى المحيسن، دون أن تنسى زيارة أخوالها البدو.
وكما قال لها والدها بالتبني أنت أهل حالك، كرر عليها معلما محمد القدسي العبارة نفسها، في دلالة لا تبعد عن الاعتماد على النفس في الحياة والنهوض. مانحها القدسي الأمل: انت اللي جاية وأنا اللي رايح..»، نافيا عنها صفة الهائمة.
وهنا تبدأ خيل رحلتها الوجودية في النظر نحو الحياة بعد أن تفيق من حالة الصدمة:
وهيك شوي شوي، دخلت حلبة السباق ويّا هالناس، وصرت أركض أركض لحتى وصِّل، وقتها بس عرفت ورا شو كانت الناس عم تركض، كانوا عم يركضوا ورا السراب. ولأني كنت بعرف السراب أكــتـر من غيري وقفت، وقلت لحالي:
-ـ يا بنت ما ظلك كتير لتعيشي، فشوفي الدنيا.
ورْجِعتْ من جديد، حِسْ بالصبح، بريحة الخبز، بطعمة القهوة، بالمشي تحت المطر، بوجوه الناس، حتى الضجر، رجِعتْ حسُّو واستمتع فيه، ورْجعِتْ دور عليك جوَّاتي.. باختصار رجِعت شوف الحياة بعين الميِّت».
المدهش في المسرحية، أنها تجمع العادي بالطقسي أي بغير العادي، حيث جمع العرض تفاصيل من المشاهد اليومية، في قالب فني، باستخدام تقنيات بسيطة تم توظيفها بعمق، من خلال الحركة المسرحية، غير العادية، ومن خلال تآلف فريق التمثيل مع المشاهد خلال السرد، بحيث يكتسي السرد بعدا سحريا، حيث يقود العرض الجمهور في اللاوعي، للربط بين الشعور الذي تنفعل به خيل مثلا، مع الحركة الملتصقة بالأرض كأنها ملاذها.
تجلى النص مسرحيا كأروع ما يكون إخراجا وتمثيلا وموسيقى وديكورا بسيطا معبرا عن عمق المسرحية، للتأكيد على الفكرة، حيث وظف الديكور والفضاء المسرحي بل وكامل المسرحية للفكرة، والتي احتفى بها غنائيا بصوت ريم تلحمي المميز والمعبر، والذي أدخلنا جوا طقسيا سمعيا إضافة إلى طقوس البصر. ولنا أن نتأمل رحلة تايهة ورحلة خيل، وكيف ورثت الابنة رحلة الأم، من خلال توظيف الحبل على طول خشبة المسرح، في إبداع رمزي.
لقد كان عنصر التمثيل عنصرا إبداعيا، فتتبع شخصية المعلم محمد القدسي، من المعلم المليء حيوية، إلى الكفيف، حركة وأداء كشف عن موهبة واحتراف لدى الممثل، كذلك الحال مع أداء دور تايهة، طفلة وكبيرة.
تمثيلا، وتتابعا للمشاهد، يظهر لنا أولا علم الكاتب عدنان العودة بالكتابة المسرحية، وفهما عميقا للمسرح وما يحتاجه من أسلوب عرض القصة، والذي ترجمه المخرج الفلسطيني إيهاب زاهدة، في التمثيل، حيث تناوب السرد ما بين الابنة خيل وأمها تايهة. ولم يعتمد المخرج على حيوية السرد المتناوب بل عمد إلى مستويات من الزمن، ومستويات من عمر كليهما، كما ظهرت السرد الحكواتي مصاحبا للتمثيل في آن واحد، حيث ظهر على الخشبة مستويان: ساردة وممثلون وممثلات، فخلال الصوت السارد نرى النص المسرود وهو في الحالة التمثيلية. وقد انسجمت الإضاءة مع ما ذكرنا من سرد.
من إبداع المسرحية، أن السرد لم يكن متتابعا زمنيا، بل تنوع، فهو بشكل عام يعد سردا من قبيل «الفلاش باك»، وخلال هذا «الفلاش باك»، نجد أن الزمان متناوب، فنجد يعود لأكثر من فترة، فيقدم الأحداث ويؤخرها، كي يقوم المشاهد ببناء الحكاية. فهذه تحكي عن تلك، وتلك عنها، وكلتاهما عن كلتيهما، بما يشبه الصدمة، وبما يصدم المشاهد المعتاد على تتابع المشاهد زمنيا.
وقد ربط المخرج إبداعا بين اللهجة والملابس، أما اللهجة الساردة، فهي لهجة خيل كلهجة الفتاة التي تقيم في قاسيون، ولكن داخل هذه اللهجة الرئيسية، رأينا لهجات متعددة، هي أصلا مرتبطة بالبدو والقرويين الموجودين داخل النص. كل منهما تؤكد على روايتها، من خلال تمثيل حيوي، في ظل إصرارهما على تداخل الروايتين، ربما للمصير العائلي المشترك، والمصير القومي بشكل رمزي.
هذا التداخل العجيب جديد، وإبداعي، يجعلنا نتساءل بشوق ليس عما بعد، بل عما قبل أيضا.
الملابس واللهجة
أما ملابس الراويتين خيل-وتايهة، فقد ارتدت خيل فستانا في رويها لمشاهد خيل، كما ارتدت تايهة جلاّبية رافديّة مع شال بدوي (هباري) في روي مشاهد تايهة، يُنزع في حال رويها لمشاهد خيل.وهذه تعبر عن حالى الانسجام في شخصية الساردة الرئيس وهي خيل كابنة مدينة تتحدث وترتدي لباس نساء الطبقة الوسطى.
أما الزقزقة التي وردت، لدى تايهة وابنتها، فهي ربما تعود كونهما مختلفتين كما ذكر لي المخرج، لكنني أميل للتفسير الاجتماعي-الرمزي، وهو أن خيل مثلا تعلمت من أمها اللهجة البدوية ومن أبيها شيئا من الكردية، وأمها كذلك جاءت بلهجة بدوية وعاشت بأخرى قروية، وعاشتا في جو تحولات سياسية واجتماعية خصوصا خيل، فكان وجود الزقزقة وذهابها مرتبط بردود الفعل تجاه الأحداث والأفكار. فالزقزقة هنا واقعية تتعلق باختلاف اللهجات، وهي رمزية في ردود الفعل الإنسانية.

كوميديا

من المشاهد الكوميدية التي أضفت على المسرحية حيوية وجذبا للجمهور، الحوار عن البيضة، الختان، الزفت التي استخدمها القرويون لبنان، الأسلاك، انتظار الكهرباء على مدخل القرية، دخول خيل للصف أول مرة، الملابس، درس هوزان وخيل لغمائر الحنطة…»
الموسيقى والغناء

كانت الموسيقى للموسيقار الفلسطيني المعروف الفنان سعيد مراد، والذي اختار الألحان المعبرة، وأيضا الآلات الموسيقية الملائمة للأحداث والمشاعر. اختار الكاتب والمخرج أن تكون الموسيقى حية مع العرض، حيث يجلس في الركن الأيمن العازف نور الراعي، يتعامل مع أكثر من آلة موسيقية ما بين آلات إيقاعية ووترية ونفخ.الغناء كان أساسيا في تعميق السرد، وإظهار المشاعر الانفعالية تجاه الفقد والتيه والضياع وأمل الخلاص والتحرر، وهو كغناء شجن، لاءم جو المسرحية، في مشاعرها المختلفة، فوهبها كما قلنا طقسا خاصا، وقد كان لقدرة الفنانة ريم تلحمي الغنائية في الغناء بمستويات متعددة أثر حيوي جذاب، يتفق مع روح المسرحية، خصوصا مع التراث الكردي لدى هوزان، والذي تأثرت به الابنة، (في النص المكتوب يظهر الغناء بالكردية والعربية وفي العرض تم فقط بالعربية)
اختار الكاتب مقام الشيخ الفيلسوف ابن عربي، في قاسيون، كمكان قريب من مكان إقامة خيل، حيث تلتقي فيه ليلا قبل ساعتين من اقترابها من عمر الثلاثين، استاذها محمد القدسي، اللاجئ الفلسطيني الذي أحبته من أيام الدراسة، حبا بريئا ربما كمخلص من خلال التعليم الذي أحبه والدها. ولا ندري لم لجأ المعلم القدسي للمقام، خصوصا في ظل فكرة الخلاص من الغيبيات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى