دراما الأحمر والأسود في معرض ريتا النخل

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عباس بيضون

المصدر: السفير

 

تتمشى أمام اللوحات ذات الحجم الكبير غالباً المعلقة على جدران قاعة قصر اليونيسكو. لوحة بعد لوحة ينتابك الشعور أنك تعبر من فصل إلى فصل، أنك تطوي صفحة وتباشر صفحة أخرى، ينتابك الشعور أنك أمام نص يتتابع تحت عينيك، أن شيئاً من اللوحة التي تراها يتواصل ويتكامل مع اللوحة التي سبقت واللوحة التي ستأتي. ليس هذا بالطبع لأن مظلة أو مظلات ترتفع أمامك في لوحات كثيرة. هذه المظلة التي تشكل مفردة تتردد في أكثر اللوحات، تبدو وكأنها الشخص «الرئيسي» في أكثر اللوحات، وبفضلها تبدو اللوحات وكأنها تتداول القصة إياها. بل تبدو وكأنها تلعب الدور الأول في شريط متلاحق.

ليست المظلة وحدها التي تصل بين هذه اللوحات. ثمة أكثر من ذلك بين اللوحة واللوحة، ثمة الأحمر والأسود اللذان يعيدان إلينا عنوان ستندال الشهير. لكنهما أحمر وأسود يطبقان على بعضهما. الأحمر الذي يخالفه الأصفر يشب كالنار، بل هو نار مندلعة. يمكننا ان نقول إنها مخيلة الحريق هي التي نراها في اللوحات، حريق فائر لكن ألسنته لا تتراقص يندلع بعزم وقوة لكنه لا يتوزع. كتلته تضطرم من داخلها لكنها تبقى في داخلها، انها نار مكعومة برغم ضرامها وزخمها بأسود رخامي صقيل أو مفتت، لكن الأسود الذي يسقف الأحمر أو المسقوف بالأحمر لا يبدو في صراع معه بقدر ما يبدو متكاملاً به، الأحمر نار والأسود ليس خانقاً بل ربما يتبادلان المحل فتكون المظلة حمراء وحاملها أسود، أو تكون سوداء فوق حمرة دامسة، لكن في مطارح أخرى يبدو الأحمر بركانياً ويبدو كأنه الصهير الجوفي فيما يندلع الأسود نفسه، ولا بد أن نقول ان ريتا التي تجسم الأحمر والأسود في اشكال تتركهما أحياناً مندلعين فائرين منسكبين بحرية في اللوحة. الأحمر قد يتجسم في مظلة أو حريق لكن العبرة في كتلته وكذلك الأسود. لذا لا نجد فارقا كبيرة بين لوحات ريتا التشخيصية ولوحاتها التجريدية. بل تحس ان التجريد ليس تجريداً بقدر ما ان التشخيص ليس تشخيصاً، فالاثنان يرويان القصة نفسها. الاثنان يعيدان تلك اللعبة التي طرفاها الاساسيان بل ركناها هما الأحمر الأسود. كل من اللونين يحكي، أيا كانت اللوحة ومهما كانت اللوحة. كل من اللونين يلعب في ثنائية ثابتة، ثنائية النور والظلام بل ثنائية النار والعتمة بل ثنائية الانفجار والثوران والمكبوت الذي يغلي والصهير الجوفي لكن أيضاً اللاوعي المحتدم والسلام الذي يقع عليه ويكاد يجعله يخمد من تلقائه، يخمد من داخله.

لنقل إننا أمام شخصين، بل عنصرين وهما معاً يلعبان دورين. يتفاوتان لكنهما يتحاوران، الأحمر يغلي والأسود يحمل إليه الهدوء ويضع حداً لاضطرامه. إذ نرى لوحات ريتا النخل نشعر أننا في الداخل، في الجوف، في الأعماق وان ما يثور ويتفجر ويسكن، يحدث في الجوف في العصب في اللاشعور في الكبت. لذا نشعر ان الحريق هو مخيلتها، الحريق هو رمزها الشخصي، من هنا يمكن ان نتحدث عن اضطرام موزون عن انفجار مخنوق، عن زخم يبقى في موضعه وفي مطرحه لا يفارقه.

من هنا يمكننا ان نتكلم عن تثبيت ضمن الغليان، فهذه المظلات التي تتلاحق في اللوحات حاملة تلك الدائرة الرحميّه وذلك التضليع الصدري، انها ساكنة حتى حين تكون حمراء كأنها تراقب ما حولها وهو يغلي ويفور ويحتدم. كأنها عين خارجية، كأنها الفنانة نفسها وهي تراقب من عل دراماها الشخصية تصل إلى الذروة وتتراجع إلى نفسها وتستمر الوقت كله في حوار داخلي. هكذا يتحول اللون إلى أكثر من ذلك، يتحول التجريد إلى أكثر من ذلك، يتحول الأسود والاحمر إلى طقسين وإلى استعارتين كبيرتين وإلى رمزين ذاتيين. ويستمر المعرض لوحة بعد لوحة، يروي القصة نفسها التي تتحول واحدة بعد واحدة، رواية عاصفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى