دهشة العادي في «قدم متسخ» لفردوس عبدالرحمن

الجسرة الثقافية الالكترونية

*يسري عبد الله 

المصدر: الحياة

عبر لغة محايدة لا تعرف انفتاحاً دلالياً مجانياً، وفي قدر أقل من المجاز، يأتي الديوان الثاني للشاعرة المصرية فردوس عبدالرحمن «قدم متسخ» (دار الأدهم، القاهرة) مكتنزاً طبقات من المعنى داخله، فيبدو ابناً لدهشة العادي، حين يستحيل إلى بناء إنساني وفني، يستعيد الهواجس القديمة، ويسائل الذات، ويلعب على تناقضاتها في آن. يتشكل الديوان من ست عشرة قصيدة، وثمة روح تحوم حول النصوص، تنتظمها فتجعلنا أمام تنويعات مختلفة لذات مركزية، يعلو حضورها ويخفت طيلة الديوان، بدءاً من التصدير الدال؛ «ليس صخر ولا جبل ولا عشب جائع يقطع الطريق على أحد»، فنصبح أمام دوال تحيل إلى عالم قاس، وموحش: «صخر/ جبل/ عشب جائع».

في قصيدتها الأولى «مقعد متحرك ووحيد» توظف الشاعرة أفعال الحركة كثيراً: (تتريض/ اخرج/ تنبت/ جرى)، عبر شعرية تحوي قدراً من الجسارة والمكاشفة، والإحساس العارم بالاغتراب: (واقفة عند الباب أحدق ولا أرى حياتي/ ربما تتريض في الخارج مع آخرين/ ينبغي أن أخرج الآن/ ولو كان دم يسيل/ تنبت الأيدي والعيون والأقدام وكل ما فيك/ إذا جرى دم/ أنا نفسي جلبت ابنتي إلى الحياة عندما صار دم كثير» ص 9

وتتواتر الصور الشعرية بنزوعها المغترب وامتلائها بتوتر مضمر، وبما يفضي إلى ذات مهشمة تحيا تشظيها الخاص: «على الأرض/ وفي الفراش/ أقف عند الباب وصورة مني معلقة على الحائط/ أفتش عن ذكرى/ حين تفقد ذكرى.. تحيا غريباً في أشد الأمكنة ألفة/ وتنام غريباً على سريرك القديم/ غريباً بكاملك» ص 10 تبدو الاستخدامات الشعرية للمجاز هنا محمولة على أفق مختلف «ويحنو عليك جبل»، فلا يتوسل بطرق عاطفية ساذجة، أو مكرورة.

في «رعب» ثمة إحالة إلى ذلك الاشتباك اليومي مع الحياة، والخوف من تربصها بنا، من انشغالنا بمآسيها ونزقها وفوضاها المستمرة؛ «مرعبة جداً تلك النهارات/ الممتلئة بقطع الزبد والأرز المطبوخ وعربات المترو/ مرعب/ الذين يمرون بك غير آبهين» ص 17.

وفي «أغلقت الباب وراءها ثم نست»، تعاني الذات الشاعرة وحشة واغتراباً شديدين، ومن ثم فهي تسعى دوماً إلى التعبير الجمالي عن أولئك المارين بلا اكتراث، وتتواتر الإحالة إلى «غير الآبهين» الذين بدا حضورهم بارزاً في القصيدة السابقة «رعب»، أكثر من مرة داخل النص، وعبر صيغ مختلفة؛ «حاولت إقناعك أن هذا أهون من الذين يمرون ولا يعرفوننا»، وتلجأ الشاعرة أيضاً إلى استخدام آلية التكرار، على نحو ما نرى في استخدام الجملة الشعرية «وكان المفتاح معي… ونسيت»، وما فيها من إحالة إلى هذه الروح المصرية، فضلاً عن اعتماد القصيدة ذاتها على آلية البناء الدائري، حيث البدء بجملة شعرية ثم الارتداد إليها في نهاية القصيدة. تتسع مساحة الفانتازيا في قصيدة «بعد أن ركّبت جسداً»، وتبدو فكرة «تركيب الجسد» تخييلية بامتياز، فنصبح ومن ثم أمام مساحات ضافية من التخييل الشعري من جهة، وحوارية شعرية رهيفة بين الذات وإحدى تنويعاتها من جهة ثانية، تعقبها حالة من البوح المعتمد على فتح مدارات التأويل على اتساعها، كما يتواتر حضور الجملة الشعرية «لي من العمر ما يكفي لأحكي»، وتستهل بها الشاعرة المقاطع الأربعة لقصيدتها «لي من العمر ما يكفي لأحكي» ص35.

في قصيدة «روح» ثمة إحالات مختلفة ينفتح عليها النص عبر الإشارة المركزية (يناير)، والتي صارت في الوجدان الجمعي المصري تعبيراً بليغاً عن عالم جديد يتشكل، وثورة شعبية عارمة، فتجعل منها الذات الشاعرة يوم ولادتها، والدلالة هنا غير نهائية، لكنها تبقى محملة بمعان مختلفة، والأهم هذه الروح التي تسعى صوب تركيب الجسد بمستوييه الخاص والعام من جديد.

تعد قصيدة «طفلة كبرت ورافقتني» من أعذب قصائد الديوان، وتوظف فيها الشاعرة ضمير المخاطب بوصفه ضميراً للحكي الشعري هنا، وبكل ما يتيحه من إمكانات المساءلة الجمالية، لنصبح أمام قصيدة شفيفة ومدهشة، تبحث عن صيغة تخصها، بدءاً من عنوانها اللافت وحتى المختتم.

رتبت الشاعرة قصائد ديوانها على نحو لافت، وبدا ذلك واضحاً في النصين المتتاليين (المغادرون – العائدون)، وبما يحملانه من مفارقة لفظية ودلالية، ففي «المغادرون» نصبح أمام أولئك العابرين الذين أضحوا مغادرين، والمغادرين الذين أضحوا عابرين، والغرباء الذين يتحركون في المساحتين، فتتواتر الدلالات عن الفقد والترحال، والأمكنة المنسية، والحكايات التي تبكي عزلتها، والبيوت المتروكة، ونظرات الوداع. غير أن ثمة أملاً يلوح في المختتم، حيث الرفاق قادمون، لكن الخشية أن يكونوا مجرد سراب، بل منح القارئ أفقاً واسعاً للتلقي، يكمل فيه الفراغات، وعينه على عالم مسكون بالأسى والوحشة.

تحيل قصيدة «العائدون» إلى أفق سديمي مستقره البحر، الذي يمثل رمزية للخلاص من جهة، وعنواناً على فناء محقق من جهة ثانية، وما بين الصيغة الإنشائية في الاستهلال: (اهدأ)، والخبرية في المختتم، تتخلق مساحات إنسانية وسيعة لبشر خذلهم العالم بعد أن قدموا كل شيء من أجل النجاة.

ثمة نص تعنونه الشاعرة بـ «موت»، يصبح الدال المركزي فيه «محطة قطار»، بكل ما تشير إليه من حمولات معرفية وثقافية، عن اللقيا والفراق، صخب الحياة، وسكون الموت المباغت، وما بين جدل الحياة والموت، تتشكل صيغة شعرية رهيفة، يصير الموت فيها متناً/ عنواناً، والحياة طارئة/ هامشاً، حيث لم تكن أكثر من محطة قطار.

توظف الشاعرة ضمير المخاطب من جديد في قصيدتها «نسيان»، وتداعب الوجدان الشعبي في عنوانها اللافت «من زمان… قلت له: أحبك»، وتلعب على تداخل مساحات الحضور والغياب، والاتساخ والبياض في قصيدتها «قدم متسخ»، وصولاً إلى قصيدتها الأخيرة: «طفلة أخرى… تتفكك على الطريق»، تستشعر فيها قدراً من التواشج مع «طفلة كبرت ورافقتني»، وتعبيراً دالاً على الفجيعة، وإحساساً عارماً بالتشظي في سياق بالغ القسوة والوحشة والعتامة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى