“دون كيخوته”.. الرواية الأولى الأهم في العصر الحديث

الجسرة الثقافية الالكترونية

*جهاد فاضل

المصدر: الراية

لعل هذه الدراسة للباحث المصري الدكتور غبريال وهبة (الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب) هي أحدث ما ظهر بالعربية عن رواية ثربانتس الشهيرة «دون كيشوت» أو «دون كيخوتة» كما تُلفظ باللغة الأم، أي الأسبانية التي وضعت بها أصلاً. وهي دراسة في منتهى الجودة ولعل العيب الوحيد فيها هو أنها لم تتعرض لا من قريب ولا من بعيد «للأثر العربي» في هذه الرواية، مع أن الغربيين أنفسهم، وبخاصةٍ الأسبان، يؤكدون وجود هذا الأثر المتأتي أصلاً من كون مؤلف الرواية، ثربانتس، أُسر وسُجن في الجزائر واطلع هناك على الأرجح، وبطريقة من الطرق، على نماذج من القص العربي انتفع بها في كتابة روايته. وثربانتس نفسه أورد في هذه الرواية نماذج إنسانية ذات أسماء عربية مثل «ابن الأيّل» مثلاً. وهناك الكثير من الفقرات في الرواية تدلّ على قرابةٍ ما مع السرديات العربية القديمة. وكل هذا يشي بأن إقامة مؤلف الرواية القسرية في الجزائر مدة ثلاث سنوات أنعمت عليه كروائي إنعامات شتى». قد يُنعم الله بالبلوى»، يقول الشاعر العربي القديم، وهذا هو بالفعل حال هذا الروائي الأسباني الرائد صاحب «دون كيخوتة» الذي أسره قراصنة جزائريون في عرض البحر واقتادوه إلى الجزائر وطلبوا فدية لإطلاقه. فلا ريب، كما يقول الدكتور عبدالرحمن بدوي في مقدمته لترجمة الرواية إلى العربية، من كون ثربانتس قد تأثر بما وصله من أساليب السرد الروائي أو شبه الروائي العربي. إلا أن الباحث غبريال وهبة لا يشير إلى شيء من ذلك في دراسته، وهذا أمر غريب.

 

ولكن الباحث يدرس هذه الرواية وأثرها في الآداب العالمية دراسة مستفيضة. وهي رواية جديرة بأن يقرأها كل مثقف، وفي كل مكان، لأنها الرواية الأولى في العالم الحديث كما هي الرواية الأكثر خلودًا. إذ لم تحظ شخصية روائية بالخلود مثلما حظيت شخصية دون كيخوتة التي أبدعها ميجل دي ثربانتس وهو روائي وكاتب مسرحي وشاعر ذائع الصيت. ويعدّ كتابه هذا عن دون كيخوتة أعظم عمل فني في تاريخ الأدب الأسباني ومن أحب وأوسع الكتب انتشارًا في العالم.

 

شخصية دون كيخوتة تُعدّ من النماذج الإنسانية العليا، إلى جانب بروميثيوس وفاوست وهاملت. إنها شخصية تمثل روح الإنسان، أما رفيقه في الرواية سانتشو بانثا فيمثل بدنه، ذلك الرفيق الأصيل للروح، ومنذ القرن السابع عشر حتى الآن لم يفرغ البشر من فهم دون كيخوتة، وما زال المعلقون والشراح والنقاد يجدون في أقواله وأفعاله كل أنواع المعاني والرموز ذات المغزى والدلالة والأهمية، رغم أن ثربانتس نفسه يعترف بأنه لا يودّ شيئًا سوى شجب قصص الفروسية وتعرية ما فيها من زيف وعبث.

 

دون كيخوتة هي قصة نبيل ريفي عجوز يدُعى دون ألونسو كيخادا أو كيسادا قضى عمره متعطلاً كسولاً في قرية صغيرة بإقليم المانتشا وكانت تسليته الوحيدة قراءة كتب الفروسية ومغامرات الأبطال وقد امتلأ خياله منذ صغره، كما امتلأ خيال ثربانتس الذي ابتدعه، بكل ما قرأ في قصص الفروسية، وجن جنونه شغفًا بها حتى باع أرضه ليشتري كتبًا، وامتلأت نفسه خيالات وأوهامًا، وألحّت عليه صور المعارك ومشاهد الحب والغرام.

 

في أثناء هذه القراءات يفقد الإدراك السليم ويتخذ من الخيال حقيقة. وقد دفعه جنونه إلى تنفيذ ما تصوره في خياله. يترك منزله ويختار لنفسه اسم دون كيخوتة دي لامانتشا، ويقرر أن يجوب هذه المقاطعة ممتطيًا صهوة حصانه الهزيل الأعجف العجوز مثله، وقد ارتدى زي فارس متجول وأمسك رُمحًا طويلاً وعلق السيف في حمائله. خرج ليلقى الظالمين وقلبه عامر بما خلقته من أجله الأقدار، وهو إصلاح ما في العالم من شرور.

 

الرواية تقصّ كل ما حدث لبطلنا خلال هذا المشوار الطويل. وهي تتكون من ١٣٤ فصلاً وتنقسم إلى جزأين. صدر الأول في السنوات ما بين ١٥٩٨ و١٦٠٤ وصدر الثاني سنة ١٦١٥. دون كيخوتة مخلوق غريب الأطوار لم يكن فارسًا ولكنه أراد التشبه بواحد من الفرسان كأنه مثل أعلى يصعب الوصول إليه وقصة حياته هي قصة الكفاح الذي ينبغي على الإنسان أن يخوضه إذا أراد التوفيق بين المثل الأعلى وبين تفاهة الحياة اليومية.

 

يرى البعض رواية دون كيخوتة رواية ساذجة ممتعة فيستمتع بها، في حين يراها آخرون لغزًا محيرًا رغم اعتراف مؤلفها بأنه إنما أراد أن يهاجم قصص الفروسية التي فتنت مواطنيه حتى أفقدتهم الإحساس بالواقع. بيد أن قصص الفروسية كانت دالت دولتها من قبل أن يؤلف ثربانتس روايته.

 

والرواية تعالج التحرر من الوهم وهو من الموضوعات والأفكار الكلاسيكية في الأدب الأسباني. آمال الأسبان وطموحاتهم فاقت إمكاناتهم فصدمتهم الحياة. وهكذا كان ثربانتس وبطله فتخلى كلاهما في النهاية عن أوهامه.

 

ويبدو أنه كما أراد شكسبير أن يشعر الإنجليز بإنجليزيتهم بما ألّفه عن تاريخهم من سلسلة مسرحياته عن ريتشارد الثاني والثالث، وهنري الرابع والخامس والسادس، استطاع ثربانتس أن يشعر الأسبان بأسبانيتهم عن طريق دون كيخوتة، ذلك الفارس العبقري النبيل الذي انفصل عن الواقع بخياله، فتعالى نفسه وتتسامى إلى الآفاق ثم يردها الواقع المتمثل في سانتشو، حيث يرتطم بالأرض، ولكنه في إصرار على المقاومة، غير عابئ بالآلام والمصائب، يعاود التحليق عاليًا في سماء المثالية ليعود فيرتطم من جديد بأرض الواقع الذي حجب عنه الخيال رؤية حدوده وطاقاته.

 

وهكذا استطاع المؤلف في براعة أن يقيم توازنًا بين شخصيتي بطليه الرئيسين فاستقامت له بذلك واقعية كان يحرص عليها.

 

أثارت الرواية، وشخصية بطلها، فيضًا من التعليقات والتفسيرات طوال ما يقرب من أربعة قرون. ومازالت إلى اليوم تحيّر الباحثين وتحفز تفكيرهم وتدفعهم إلى التساؤل حتى الآن. وهذا يدل على عبقرية كاتبها. وقد زاد هذا الغموض الذي يكتنفها من ثرائها وأكسبها هالة معينة.

 

فما كانت ملاهي شكسبير تكاد كلها تنتهي بالزواج، فالاعتقاد الذي ساد هو أن هدف الملهاة هو تشجيع روح التفاؤل، أو على الأقل بث المرح، ولكننا نجد أن ثربانتس رغم انتهاء روايته بموت بطله، استطاع أن يثير ضحكنا دون أن تسفّ فكاهته إلى التماس الإضحاك، بل تقف عند الحد الذي يسيغه الذوق السليم، فكانت الضحكة التي تحتفظ بوقارها. ولم يخرج كاتب مثل هذا القدر من المرح من ثنايا الشقاء والحرمان كما أخرج ثربانتس. لقد قصد من روايته أن تكون مرآة للمجتمع بكل عيوبه الاجتماعية والسياسية وما يعج فيه من رذائل ونفاق ودعاوى زائفة في الآداب والأخلاق، معالجًا كل ذلك بسخرية غير حزينة، بل بهجة، تنظر إلى العيوب والنقائص بتردد بين البسمات والعبرات.

 

عندما تخفى سانسون كاراسكو أحد جيران دون كيخوتة في زي فارس المرايا ثم فارس القمر الأبيض وانتصر على دون كيخوتة حكم عليه بأن يتخلى عن الفرسان الجوالة والعودة إلى المنزل. وهناك مات دون كيخوتة معلنًا أن الفرسان الجوالة هراء، دون أن يدرك قط أنه شخصيًا كان فارسًا حقيقيًا وسيدًا نبيلاً شهمًا شجاعًا، وكأنه من أولئك الذين يصدق عليهم قول الشاعر الفارسي القديم، «نحن أمواج إن تسترح تمت».

 

مات دون كيخوتة بعد كفاح تعزى بنبل غايته عما لقيه من مصائب وآلام. مات بعد أن باء كفاحه بالفشل ولم يعد بقادر على استئناف حياة بليدة رتيبة كالتي يحياها الملايين من الخاملين، وسيبقى دون كيخوتة في عقولنا رمزًا للنبالة الساعية في خير الإنسانية والفناء في سبيلها.

 

وستظل حياته درسًا نتعلم منه أنه ليس من الضروري أن نلقى نجاحًا ماديًا وواقعيًا لاصقَا بالطين المجاهد في سبيل مثل عليا نؤمن بها ونفنى دونها.

 

لقد ضحكت أسبانيا مع كاتبها ثربانتس من ذاتها حتى لا تجهش بالبكاء في ساعات الإذلال والاندحار، شاعرة بضرورة بعث الوطن من كبوته، وأن ذلك لا يتم إلا باقتباس مثالية دون كيخوتة وعطائه. وإذا كان ميجيل دي ثربانتس قد شجب الهوس الخيالي في قصص الفروسية في روايته، إلا أنه لم يشجب أبدًا ذلك الحب الآخر، حب ما هو مثالي، ولا ذلك الأمل ولا تلك البساطة ولا ذلك الاحترام، ولا هذه الثقة بالنفس ولا تلك الأحلام التي يعجب بها عند فارسنا النبيل. فكلها لازمة لإنجاز المشاريع الجبارة للشعوب والأفراد.

 

وثربانتس يهاجم كتب الفروسية لأن أسلوبها مفتعل وكله تكلف وتعقيد. هو يرى أن يكون الأسلوب بسيطًا خاليًا من الصنعة، كما أنه يأخذ على مادة هذه الكتب ما تحفل به من كذب وزيف وما فيها من خيال جامح ومواقف غير معقولة. ثربانتس يهتم بالصدق الأدبي، ويبتعد عن الخوارق والتهاويل وهو يرى أن يكون الأدب واقعيًا قدر الإمكان، فقصص الفروسية فيها من المغامرات ما لا يخطر على بال.

 

وثربانتس يتطلع من خلال شخصية دون كيخوتة، إلى هدم الإيديولوجيات القديمة والعرف والمظاهر والأمجاد الزائفة حتى يبني عالمًا يسود فيه الحب والشعر وإنكار الذات والتحلي بالأخلاق الفاضلة والطهر والنقاء والنبالة التي تمدّ يد المساعدة للإنسانية المعذبة، هو ليس لديه حلول. لم يقدّم حلولاً حتى أن دون كيخوتة عندما تسلح وامتطى صهوة روثينانتي ترك له العنان، إذ لم يكن يعرف إلى أين يمضي!.

 

كتب ثربانتس روايته هذه ببساطة ووضوح، مبتعدًا عن الحذلقة في استعمال التعبيرات المتقعرة والكلمات المجهورة، معبرًا عن الأحاسيس والعواطف من خلال التجربة، وقد جعل شخوصه يتكلمون ويعملون بالطريقة التي يعمل ويتحدث بها الناس، وقد وصف كل شخصية بنفس الاهتمام الموضوعي دون أن يحفل بالطبقة أو المركز والجاه، كان كل هذا يشكل علامة نحو التغيير الثوري الذي حدث من اتجاهات الفنان إزاء العالم إذا لم يسبقه كاتب صور الناس كما هم في الواقع.

 

وفي روايته عرف ثربانتس المولولوج الداخلي. دون كيخوتة رواية إيجابية إن جاز التعبير، فهي أول كتاب يحتضن كل مسالك الحياة وطرقها المتشعبة. وهكذا جاءت الرواية مرآة للعصر وعاداته وتقاليده. ولكن ثربانتس ترك القارئ يكون رأيه بنفسه، وهكذا جاءت الرواية فريدة في عصرها وأوانها. نحن أمام رواية حديثة، إذ إنه تحت الفكاهة، وتحت حكاية التجول والجري والركض، وتحت ما قدمته من انعكاس للحياة كما هي، نجد أنها درست أيضًا شيئًا آخر:

 

كل طبيعة الواقع والوهم، وهذا بشكل أو بآخر هو ما تُعنى بدراسته كل رواية حديثة، واستعماله للأسلوب الساخر المرح، جعل من مؤلف الرواية حديثًا عصريًا دائمًا.

 

ولكن الرواية لا تخلو من مآخذ. يأخذ الباحث غبريال وهبة على ثربانتس في روايته وجود بعض المصادفات المفتعلة، والسهو والخطأ الذي ينشأ عنه أحيانًا خلط بين الوقائع والأحداث كحادث سرقة حمار سانتشو. ثم نراه رغم ذلك يظل يتحدث عن الحمار في مواضع أخرى وكأنه لا يزال في حوزة سانتشو. وهناك في الفصل الثاني والأربعين من الجزء الأول من الرواية : «بدأ النهار ينحدر والليل يقبل».. ناسيًا أن الليل قد أقبل من زمن طويل، وأنهم تناولوا العشاء، وأن الأسير قضى زمنًا طويلاً وهو يروي سيرته الحافلة.

 

وهناك المواعظ المتناثرة في الرواية وكان من الأجدى ترك الأحداث تتكلم عن ذاتها.

 

والمؤلف يتدخل شخصيًا أحيانًا في بعض مواضع الرواية، وكان من الأنسب أن يفصل ذاته عن عمله الفني.

 

كما أن استباقه مقدمًا لما تسفر عنه بعض الأحداث أفقدها عنصر الإثارة والتشويق، مثل قوله في الفصل الثاني عشر من الجزء الثاني من الرواية عن دون كيخوتة وفارس المرايا: «كان الحديث يجري بينهما هكذا وهما جالسان إلى جوار بعض على الأرض، في تفاهم جميل، دون أن يقدّرا أنه حين ينقشع الظلام سيكسر كل منهما رأس الآخر».

 

وقد راقنا ما جاء على لسان دون كيخوتة في الفصل الثامن والخمسين من الجزء الثاني للرواية عندما قال: «إن ما يسميه العامة باسم الفأل والتطير، هو أمر لا يقوم على النظام الطبيعي للأشياء، حتى خلنا أن ثربانتس كان يفكر بالأسلوب العلمي، إذ ربما اطلع على آراء جاليليو وأسلوبه التجريبي في البحث. بيد أننا رأيناه في مواضع أخرى يتحدث عن الجنيات والسحر والسحرة. ويبدو أن ثربانتس اقتبس ذلك من فولكلور العصور الوسطى.

 

وفي اعتقادنا أن من العسف النظر إلى كل ما ورد في الرواية نظرة عصرية بعين رجل العلم الذي يعيش في عصر الفضاء. يجب أن نعزل هذا العمل الفني ونقيّمه في حدود عصره ومقاييس ذلك العصر على سبيل المثال، الحديث عن السحر والسحرة وحكايات الجن كان حديثًا عند الناس في عصر شكسبير. وهناك شعراء مثل سبنسر احتفوا بالجنيات في أشعارهم.

 

وإذا انتقلنا إلى ما ذكره الدكتور عبد الرحمن بدوي في ترجمته رواية دون كيخوتة، من أن الاضطرابات في التواريخ كثيرة، فإننا نرى أن ثربانتس لا تثريب عليه. فهو فنان وليس مؤرخًا ملتزمًا بوقائع التاريخ بأدق تفاصيلها.

 

نود أن نشير إلى أن كثيرًا من الكتاب الكبار في العالم تأثروا برواية دون كيخوتة مثل هنري فيلدنج وتوبياس جورج سمولبت ووالتر سكوت وتشارل ديكنز. إنهم برأي بعض النقاد خرجوا من معطف ثربانتس.

 

لم تؤثر رواية دون كيخوتة في الأدب وحسب، بل أثرت أيضًا في الفنون التشكيلية، كما أنها أغرت كثيرًا من المؤلفين الموسيقيين من مختلف العصور فوضعوا موسيقى موضوعات مستوحاة من تلك الرواية في مختلف الأشكال الموسيقية، من القصيد السيمفوني (شتراوس) إلى موسيقى البالية (مانويل فايا وبوامورتيير ولو دفيج مينكوس وسواهم). كما توالت العروض الأوبرالية التي شهدتها مختلف العواصم العالمية.

 

يلفت النظر ما قاله ثربانتس على لسان دون كخيوتة في الفصل السادس عشر من الجزء الثاني للرواية، وهو «أن الشاعر المطبوع الذي يستعين بالصنعة يفوق كثيرًا من لا يعرف سوى الصنعة، لأن الصنعة لا تفوق الطبيعة، وهكذا يمزج الطبيعة بالصنعة، والصنعة بالطبيعة ويخرج الشاعر كاملاً. قد يكون ثربانتس تأثر في ذلك بما قاله الشاعر اللاتيني الكبير هوراس في كتابه «فن الشعر» عن الصناعة والإلهام: «لستُ أتبين ما يستطيع التحصيل أن يثمر من غير نفحة وافرة من الموهبة الفطرية، أو الموهبة الفطرية من غير التحصيل، إن أحدهما يلحّ في طلب الآخر ويعاهده على صداقة باقية. فمن كان مطمعه بلوغ الهدف المنشود، فقد عانى الكثير من صباه، وارتعد وتصبّب عرقه، وحرم نفسه الحب والخمر»!.

 

ألا ينطبق هذا على ميجيل دو ثربانتس الذي لم يكتف بموهبته الشخصية فقبع ساكنًا منتظرًا الإلهام يسقط عليه من ربات الشعر؟ بل لقد عانى الكثير في صباه وتصبب عرقه كي يصقل تجربته ومواهبه، وهو الذي حدثنا أنه منذ صغره لم يكن يعثر على قصاصة ورق إلا ويقرأ ما فيها. بذل ثربانتس جهدًا شخصيًا متصلاً في تثقيف ذاته، وفي الاطلاع على مختلف الآثار الأدبية واغترف من الحضارتين الإغريقية والرومانية الكثير، وحصل على ثقافة واسعة تطل علينا بوضوح من روايته دون كيخوتة. فقد أشار على سبيل المثال إلى هوميروس وفيرجيليوس وبلونارخس وسيزيف وبروميثيوس وميديا ونبتون وهكتور وأخيليوس وطروادة التي رجع فضل شهرتها إلى هبلانة الجميلة التي اختطفها الضيف الجسور من متيلاوس، وأفلاطون ورأيه في الشعراء، ولم يقصر إطلاعه على الآثار الأدبية وحسب، بل تجاوزها إلى شتى أنواع المعارف، كما نتبين ذلك من ذكره لكتاب «الحشائش» الذي ترجمه لاجونا عن اليونانية إلى الأسبانية.

 

كما اطلع على مؤلفات توماس الأكويني في الفلسفة والأخلاق والدين وما وراء الطبيعة، وهو راهب زاهد متقشف كان يجوب إيطاليا على صهوة بغله، ذائدًا عن الدين بقوة براهينه الفلسفية، مدافعًا عن القيم والمثل العليا، وربما كان لهذه الشخصية أثرها كأحد المنابع التي أسهمت في إلهام ثربانتس عندما كتب روايته الخالدة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى