ذكريات الزمن الجميل ومراحل السينما المصرية

الجسرة الالكترونية الثقافية-الحياة اللندنية-
«فن التمثيل ليس فناً أصيلاً، إنه فن تابع، طالما ان هناك خلفه كاتباً للحوار ثم مخرجاً، فالإبداع الأصلي ليس للممثل. ومن حسن حظي أنني عملت مع فنانين أدين لهم بما حققت، فكل تكريم أحصل عليه أُرجعه الى كل أساتذتي الذين تعلمت منهم الالتزام وحب الجمال، والإيمان بالقضايا العامة. كنت محظوظاً بوجودي بين أستاذة حقيقيين في الموسيقى، وفن الإلقاء، وفي كل عناصر الإبداع الفني. تربيت على يد أساتذة كبار في النقد مثل لويس عوض، ومحمد مندور. كنت أذهب الى مسرح الكبار، أحياناً لا أفهم ما يقال لكن بالممارسة عرفت. ولا أنسى جلال معوض في حفلات أم كلثوم إذ كان يصطحب معه ضيفاً يزيل غموض الكلمات».
هكــذا بتـــواضع شديد يستهل نور الشريف حديثه عن إنجازه الفني، فيُؤكد أنه مديـــن بالكثير كممثل سينمائي للمخرج محـــمد فاضل منذ عمل معه في حلقات «القاهرة والناس»، التي كان تصويرها يتم سينمائياً، مدتها نصف ساعة من دون مونتاج، وأي خطأ أثناء التصوير – حتى لو كان في نهاية الحلقة – يجعلهم يعيدون التصوير من البداية. يعتبر الشريف نفسه محظوظاً لأنه بدأ حياته العملية – وكان عمره 21 سنة – مع كاتب سيناريو مثل عاصم توفيق، وأنه بدأ مع مخرج يؤمن بالقضايا الاجتماعية. كانت «القاهرة والناس» أول تجربة إخراج لفاضل. كانت بعد نكسة 1967 مباشرة، تم تصويرها بالأبيض والأسود، حلقاتها منفصلة متصلة، تدور أحداثها حول مشاكل الأسرة المصرية. كانت العائلة ثابتة وكل مرة تتم مناقشة قضية مختلفة. لم تكن هناك رقابة. ونجح المسلسل وانتشرت الغيرة في الوسط الفني من فاضل وسعى البعض إلى إبعاده والاستحواذ على مكانه.
أجر نور
كـــان أجـــر نور 12 جنيهاً في الحلقة الواحـــدة، وخـــلال سنة ارتفع إلى 30 جنيهاً، وفـــي السنة التالية حصل على أعلى أجر، 40 جنيهاً، لكنهم تركوا أجر محمد فضل كما هـــو حتـــى يرغموه على ترك «القاهرة والناس». يقـــول الشريف: «أضربنا فرضخوا لطلبنا وعاد الأستاذ فاضل ثانية». مثلما يُؤكد أن أي فنان ثوري بالفطرة، أن يوسف شاهين كان فناناً ثورياً بالفطرة، وفيلمه «نداء العشاق» يتحدث عن الأمن الصناعي في المصانع لحماية العمال في أماكن العمل، فشاهين لم يبدأ التنظير السياسي بأفلامه إلا بعد عمله مع عبدالرحمن الشرقاوي وحسن فؤاد، ولطفي الخولي.
علـــى مدار تاريخــــه الفني تميز نور الشريف بـــروح المغامرة في فنون الأداء، وطرح الأفكار واكتشاف مناطق شائكة، بالجرأة في خوض تجارب جديدة في مجال الإنتــــاج بســـخاء، باكتشاف مواهب في الإخراج والتمثيـــل. لم يستسلم لعدم نجاح بعـــضها. قاوم، وخاض التجربة من جديد. انتقل بين عـــوالم وأبطال نجيب محفوظ، من كمال عبــــدالجواد في «السكرية» و«قصر الشوق»، إلى جعـــفر في «قـــلب الليل»، إلــــى «كامل رؤبة لاظ» فــي «السراب» إلى الفـــلاح في «يا رب توبة»، والمثقف الشاب المهزوم في «الكرنك»، ومــــفتش المباحث في «سونيا والمجنــــون»، والزوج «مصيلحي» المعقد المملوء بالانفعالات النفسية فـــي «مع سبق الإصرار». أفلامه السياسية كثيرة منــها «البحث عن سيد مرزوق»، وشخصية النشــال في «أهل القمة»، والانتهازي في «زمن حاتم زهران»، والمعتقل السياسي الهارب في الرائعة «الزمار».
شـــارك بقوة في تيار الـــواقعية الجديدة التي أُرّخ لها في الثمانينات بـ «سواق الأتوبيس». مثلـــما خاض تجارب الأكشن في «دائرة الانتقام» و«ضربة شمس». في الوقت نفسه قدم الرومانسية – «حبيبي دائماً» – والأفــلام الخفيفة والكوميدية كـ «البعض يذهـــب للمأذون مرتين»، والتقى يوسف شاهين في «حدوتة مصرية» و «المصير».
الاتجاه الواحد
ثقافته النوعية العميقة، وقراءاته الغزيرة في كـــل جوانب الأدب والفكر والفلسفة، ومتابعته لما يحدث في مصر وعلى الساحة العالمية، إلى جانب مخزونه العامر بملاحظاته اليومية للحياة وللبشر ساعدته على الانتقال من شخصية إلى أخرى – على رغم تباين تكويناتها النفسية والاجتماعية – من دون أن تطغى شخصيته الحقيقية على الشخصيات التي يُؤديها. وعندما يُسأل عن هذا التنوع في الأداء والتجارب يُفسرها بأن «صناعة النجم تسير في اتجاه واحد، أن يكون النجم رمزاً لشيء واحد فقط، أما التنوع في الأداء فيؤخر نجاح الفنان إلا إذا كان محظوظاً ونجح في البداية في أكثر من عمل يحقق لك علامة تجارية… لذلك أحترم أحمد حلمي لأنه يحاول أن يُغـــير جلده، لكنني أشفق على محمد هنيدي لأنه محصور في شخصية واحدة، وليس عيباً أن فيلماً يخسر، لكن يبدو أن شخصاً خبيثاً أوهمه «أن الفيلم لم ينجح لأنه لم يـــرتد ملابس نساء». لذا أشفقت عليه، كذلك أحـــمد عز وكريم عبدالعزيز أراهما محصورين في الأكشن، وإن كان «لايت». الخوف من الـــخسارة ضد النجاح. كان «دائرة الانتقام» أول فيلم مـــن إنتاجي – أخرجه سمير سيف – وكسّر الدنيـــا في الإيرادات، عندما فكرت في التجربة الثانـــية في الإنتاج سألـــوني: أكشن؟ قلت: لا. وخسرت. كان فيلم «قطة على نار» ورابطة صـــــانعي الأحذية شتمونا بسبب جملة تقولها بوسي من حوار هاني مطاوع. على رغم الفشل أنتــــجت بعدها فيلم «حبيبي دائماً»، ثم جــــاءتني نادية شكري بسيناريو «ضربة شمس» وقلت سأنتجــــه والفيلم كسّر الدنيا، وأعدت من خلاله ليلى فوزي بعد غيابها الطويل، لكن لا أنســــى أن المــــوزع عندما شاهد الفيلم كاد يُصاب بأزمة قلـــبية لأنه فيلم شبه صامت والحوار فيه قليــــل جداً، ولن يذاع في الراديو. فعلى الممثل الذكي أن يكون حريصاً واعياً لما يساعده على النجاح في البداية، ثم يُجرب».
نوستالجيا
الحنين إلى الماضي وزمن الفن الجميل يبدو جلياً من خلال مقارنة نور الشريف بين وضـــعية الفن في الزمن الذي بدأ فيه هو وأبناء جيله وبين الوضع الحالي، فعندما كان يُخرج مسرحيات لكلية التجارة بجامعة القــــاهرة كان الدكتور عبدالعزيز حجازي رئيس الوزراء ورئيس المالية هو المشرف على فريق التمثيل في الجامعة، كان هناك اهتمام بمسرح الجامعة. عادل إمام ومحسنة توفيق وصلاح السعدني ويحيي الفخراني جاؤوا من مسرح الجامعة. الضيف أحمد نال جائزة إخراج عن «الإخوة كرامازوف» وهو طالب بالجامعة، من لجنة التحكيم. عندما بدأ التيار الإسلامي في عهد السادات وتم إطلاق سراحه في كفتين، في النقابات والجامعات، تم وقف النشاط الفني بالكامل لأنهم بدأوا يدخلون إلى المسرح بالجنازير.
يُرجع الشريف تهميش الفن والإبداع في مصر إلى عهد الرئيس الراحل أنور السادات، ففيه تراجعت النظرة الى الفن على رغم أنه كان يحبهم جداً كممثلين. ويعترف بأنه صرّح بعرض «أهل القمة»، الذي يعد من الأفلام المهمة جداً في تاريخ السينما المصرية لأن نجيب محفوظ اكتسب جرأة في أن ينتقد السادات وهو لا يزال على قيد الحياة. وقتها كان النبوي إسماعيل وزير الداخلية ومنع عرض الفيلم، فاتصل نور بالسادات فقال له: «ابعت لي الفيلم» وصرح بعرضه بعد حذف لقطة واحدة «يجري فيها تقديم رشوة لضابط الشرطة».
على صعيد آخر يبين أحد أسباب التهميش، ففي تجربة «زمن حاتم زهران» – أول إخراج لمحــــمد النجار – كان هناك مشهد دبابة بالهرم في طريقها الى المخزن، والمشهد الثاني يقال فيه: «خلوا بالكم منها…» في إشارة الى أن الحرب انتهت. ثم مشهد في مقابر الشهداء، ورابع في معسكر المجندين الذين يتم تسريحهم. أي تصوير يوم واحد لكن الشريف يقول: «دخنا حتى نأخذ تصريحاً بالتصوير في ذلك اليوم… ثم فــــوجئنا بأن الجيش، القوات المسلحة تطلب 35 ألف جنيه، فكلــــمت المشير أبو غـــزالة فقال: ادفــــعوا فأنتم تكسبون جيداً… قلت له: فيلمان فقط يحــــققان مكاسب، فيلم نادية الجندي وفيلم عادل إمام، أما أفـــلامنا فيادوب تغطي تكلفة الإنتاج… وبعد محاصرته خفض المبلغ الى عشرة آلاف جنيه لفيلم يُمجد شهداء حرب أكتــــوبر. كــــل هذا بدأ مع عصر السادات، حيث تم إنشاء جهاز اسمه الخدمة الوطنية، كان على اية حال مهماً جداً للقوات المــــسلحة إذ رفع عبئاً كبيراً عن كاهل الموازنة العامة للدولة، لكن وزارة الثقافة عملت جهازاً مماثلاً فكنا ندفع في الساعة 6 آلاف جنيه عن التصوير مثلاً في قلعة قايتباي رغم أن مسؤول الآثار زاهي حواس صديق عمري. هنا غاب عن المسؤولين في الدولة دور الفن للأسف الشديد. بينما في عهد جمال عبـــدالناصـــر كان الوضع مختلفاً. عبد الناصر أعطـــى سلاح الفرسان – بالأحصنة والخيول – مجاناً لفيلم «الناصر صلاح الدين»، صحيح لم يُعطها الأكل، وفي آخر 3 أو 4 أيام كانت آسيا تحضر الجبنة والحلاوة تعملها ساندوتشات للخيول، لكنه ساعدها بالخيول. تأملوا تاريخ معاناة المبدعين الحقيقيين الذي لا بد من تسجيله. ويكفي للمناسبة ان اذكر هنا أن أهم فيلمين تاريخيين عن الإسلام في السينما المصرية من إنتاج فنانين مسيحيين، آسيا في «الناصر صلاح الدين»، ورمسيس نجيب في «وا إسلاماه»… وبعد هذا يأتي من يثير النعرات الطائفية في هذا البلد!!