ذهبتُ إلى “هُنــا ” (10) / إبراهيم جابر إبراهيم

الجسرة الثقافية الإلكترونية -خاص-
عَلَيَّ أن أغادر البلاد بسرعة. قبل أن يصير عاديَّاً ان أصحو كل يومٍ في فلسطين !
عشرة أيام تكفي، كي أظلَّ بحزني كاملاً. وأظلّ بحسرتي غير منقوصة. جلتُ في شوارع الخليل، في سوقها القديمة، التي يطلُّ عليها من فوق مركز أمني اسرائيلي كأنه فم وحشٍ يتهيأ لابتلاع غزالةٍ، وزرتُ بيت لحم وكنيسة المهد وأشعلتُ شمعةً لروح النبي الفلسطيني، وأكلت أشهى سندويشة فلافل قرب الكنيسة، ورأيتُ أين حوصر الفتية الفدائيين في أروقة وأنفاق المعبد، حين أكلوا من ورق الشجر.
زرت قبر ” أبو عمّار “، تحسَّستُ الرخام البارد، وتحسَّستُ بكفّي تلك البارودة المركونة بجانب الضريح، بحدّ حرس الشرف، البارودة اليتيمة، التي كان كلُّ شيءٍ هناك يقول أن الضريح قد أُعِدَّ لها هِيَ !
مشيتُ في مخيم جنين، حيث أمثولة البطولة ما زالت باديةً في ثقوب الرصاص الثخين في الجدران، ومشيت في سوق نابلس القديمة التي تشبه أسواق دمشق، وفي طريق العودة الى “رام الله” أشار لي “محمد سباعنة” وهو يصطحبني الى جنين الى منطقة “عيون الحرامية” وقال لي : هنا، في هذه الثكنة الصغيرة، تسلل فتى على فرس ببارودة انكليزية من ايام الحرب العالمية وقتل 11 جنديا وجرح عشرين ثم اختفى كالطير في الجبال !
ثم نزلنا بجانب شجرة لوز أخضر ليقطف لي بيده ويطعمني.
قلتُ له : لون الجبال هنا غيره في أي مكان. هذه الخضرة فيها تدرجات غريبة وعديدة من اللون الأخضر. تشبه ملابس الفدائيين القديمة.
كنتُ سعيداً بالطبع بأمسيتي في “متحف محمود درويش”، لكن احساساً آخر انتابني وأنا أقرأ في “الجامعة الأمريكية” في جنين، حين وجدت شباباً وصبايا من طلاب الإعلام يناقشونني في مقالات لي نُشرت في صحف أردنية، ويتحدثون عن تفاصيل لا أكاد أتذكرها، أحسستُ أنني أسكنُ هنا. وان اللجوء وهمٌ. وأننَّي فردٌ من هذه العائلة.
لم تكن تجربة سهلة، قلتُ لأصدقائي: انتم لن تفهموني ولن تفهموا اللاجىء عموماً. لن تفكروا مثلنا. ولا أستطيع ان أفكر مثلكم.
نحن مجموعة “الشعوب الفلسطينية العظيمة” التي توزَّعت في الأرض لا نشبه بعضنا !
“الفَقد” لم يكن واحداً، ولم يكن متشابهاً، ها انتم الآن، ونحن في السيارة الى الخليل، هل ترون: هذه الشجرة فلسطينية، وهذا الكلب الذي في الطريق، وهذه الغيمة، وهذه السنسلة الحجرية، وهذا الغيم، والأم التي تقود طفلها هناك بجانب الدكان؛ هي فلسطينية والطفل كذلك والدكّان وعتبته، والغبار والحجارة، .. نحن لم نجرّب أن نعيش في بلد كل ما فيه ينطق بالفلسطينية الفصحى !
لم يفهموني، ولم أفهمهم.
كنتُ أسترق النظر اليهم خلسةً، كيف يشربون القهوة، كيف يأكل “ماجد أبو غوش” الفول، كيف يطلُّ خالد جمعه من شرفته على ضريح “محمود درويش”، كيف تنظر ميساء الخطيب الى المستوطنين وهم يسابقوننا بسيارتهم، كيف يتحدث معنا نادل المقهى في الخليل باللهجة الخليلية فأكاد أعانقه.
لكنَّه كان علَيَّ ان أضبط نفسي واندفاع مشاعري لأنَّ لا أحد سيفهم اللاجىء سوى اللاجىء، والإفراط في العاطفة أوشك البعض أن يستهجنه، وهذا ما دفعني في اليوم التالي لوصولي ان البس حذائي، رغم أنني كنتُ في داخلي قد ” نذرتُ ” أن أقضي زيارتي كلَّها حافياً، وكنتُ بين وقتٍ وآخر أوشك أن أصرخ فيهم جميعاً : انتم لن تفهمونا. أنا لستُ حافياً الآن. الخمسين سنة الماضية هي التي كنتُ فيها حافياً.
أنتم لن تفهموا اللاجىء أبداً.
ووسط هذا الالتباس العميق، كان عليَّ ان أغادر.
ها أنا أغادر للمرة الثانية، ولكن هذه المرَّة على رجليّْ. لست طفلاً على كتفي أهلي. تلك كانت هجرتهم هم، واليوم هجرتي أنا !
كأنَّ على كل جيلٍ ان يأخذ حصَّته الشخصية من المرارة وهو يخرج مهزوماً.
تناولت الإفطار الأخير في بيت “خالد جمعه”، المكون من غرفتين، واحدة له وزوجته “نجاح”، وأخرى صارت لي ؛ غرفة صغيرة بحجم حضن أمّ، مساحتها لا تتجاوز ثلاثة أمتار مربعة لكنّها أحنُّ من كل منافي الأرض، والأهمّ أنه حين أفكر الآن بالوطن : أفكّر بغرفتي ؛ غرفتي المحتلَّة !