ذهبتُ إلى “هُنــا ” (2) / ابراهيم جابر ابراهيم

الجسرة الثقافية الإلكترونية -خاص- 

هي مغامرةٌ مُجهِدةٌ وساحرة !

فأنا على وشك أن أرى “الموطن الأصلي للفلسطينيين” !! أن أرى ذلك التراب المجبول بالغيبيات والأسطرة و”خرّافيات” أهلي عنه.

رأيتُ الفلسطينيين في المنافي : في عمّان، بيروت، دمشق، تونس، دبي، المغرب، السودان، السعودية، ولكنني سأرى الآن “بيت النمل” الذي خرجوا منه، ليعيثوا في الأرض بهذا الجموح الذي حفظناه.

سأرى للمرة الأولى بلداً كل ما فيه فلسطيني: أشجاره، قططه وكلابه، سوّاقيه، الباعة والزبائن، الوزراء والمتسوّلين، النساء الجميلات والقبيحات أبواب البيوت، الأرصفة، وحينها اتصل بي صديق من الخليل ليقول لي : “سنرتّبُ لك لقاء السبت لتقرأ عندنا في الخليل” ثم استدرك” أو ربما ليس السبت لأنه يوم تشتد فيه أزمة الطريق بين رام الله والخليل” ! وسرحتُ أنا في كلمةٍ واحدة “أزمة السير”، هم إذاً مثلنا ! وعندهم أزمة سير كباقي البلاد ! يا الهي هل سأشهد ذلك اليوم؟! أن أعلَق في أزمة سير على طريق الخليل ؟!!

تلك المدن التي لم نعرفها سوى في أغنيات “الفرقة المركزية” منذ أوَّل السبعينات، وباقي ألبومات الأغاني التي ردَّدناها طويلاً في مخيماتنا، هل مدن الأغاني هذه ستتنزَّلُ الآن من علياء المَجاز لتمشي الى جانبنا ونلمسها من نافذة السيّارة !

زياد خدّاش قال لي أنَّه سيكون بانتظاري على الجسر، هو وأصدقاء آخرين، وفي اليوم المسحور، حين كنتُ ساقيَّ ترتجفان تحتي في مطار “دبي” متّجهاً الى عمّان، أرسل لي زياد أن الجسر قد أغلق بسبب استشهاد قاضٍ أردني اسمه رائد زعيتر. فأحسستُ أن الأقدار بدأت عرضها الساخر، فتلك كانت أول مرة يحدث فيها إطلاق نار على الجسرمنذ حرب حزيران 67 !

لكنَّه حين وصلت عمّان عصراً كان الجسر قد أعيد تشغيله. لكنني أيضاً كنتُ أستحثُّ الوقتَ، وسائق سيارة الجسر، أن يستبقيا لي قليلاً من الضوء، فانا لا أريد أن أرى فلسطين لأول مرة في الظلام، أريد أن أمدَّ بصري على امتداده، وعلى امتدادها، أن أرى أكثر ما أستطيع أن أرى !

ووصلتُ الجسر وتلقَّفني العزيز زياد، كان قد قطع الى الجانب الأردني لأنه يدرك صعوبة قطع ذلك المتر علّيّْ، وجاء ليسندني على كتفه.

بقينا صامِتَين.

أنجزتُ الأوراق في الجانب الأردني وصعدنا الباص لينقلنا الى الجانب “المسحور”.

كان زياد حينها يتطلَّع في وجهي ويحاول أن يقرأني.

اقتربنا. اقتربنا قليلاً … اقتربنا قليلاً أخرى. لم يتغير شكل التراب. اقتربنا قليلاً أخرى. أحسستُ اسمي يهتزُّ في مكانهِ !

اقتربنا كثيراً. سألتُه وأنا لا أستطيع ان أبتلع انفاسي: زياد دخلنا فلسطين ؟. وقبل أن يجيبني رأيتُ العلمَ البغيض !

ليس هذا ما اتفقنا عليه أيتها الأغاني !!

.

رحتُ أحدِّقُ في التراب الذي صار يتكشَّفُ لي. التراب الذي مات ثلث شعبي لأجله. وزياد يشيح بوجهه؛ كأنَّه يعتذر لأنَّه “تراب عاديٌّ”، امَّا أنا فكنتُ صامتاً، أنتظرُ شيئاً، شيئاً ما لا أعرفه، ولكنني أعرفُ أنَّني انتظرتُهُ حوالي خمسين سنة ! وعليهِ إذاً أن يكون !

لا يمكن لـ “وعود العاصفة” أن تكون مجرد ترابٍ بعد الجسر.

وأيقظني صوتُ زياد: هنا قتلوا رائد زعيتر صباح اليوم. ها هو دمه على الأرض. ونظرتُ من الشبّاك. لكنَّ الباص توقَّف، وعلينا النزول لأول نقطة مراقبة. وبمجرد ان انفتح باب الباص. باب الحلم. باب المأساة. باب الملهاة. باب الخراريف. وجدتني أقفز مثل طائر مذعور الى الهواء. أقفزُ من الحكاية الى ” أرضنـــــــــــــــــــــــــــــــا”!

ولم يكن سوى رصيف اسمنتي كالح ومظلة باص، وكدتُ أقع في حضن الجندي.

كان أول جندي اسرائيلي أراه في حياتي.

وكان المكان بلا هواء. بلا هواء تماماً. الوقتُ بعد الغياب. والعتمة تغطي المكان. 

ولكنِّي منشغلٌ بالطريق: من هنا مرّوا إذاً. أهلي . مِن هنا ! ومسحتُ بيدي الجائعة على الرصيف ثم ذُقتها !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى