ذهبتُ إلى “هُنــا ” (5) / ابراهيم جابر ابراهيم

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص- 

 

كان أمير الصعاليك مهيب البرغوثي، وكان واثق طه، وحسن البطل، ومصطفى أبو هنود، وعبد السلام أبو عسكر، وأصدقاء كثيرون، وجاء معي سامح خضر وماجد أبو غوش وزياد ومحمد سباعنة، كان الجميع يفركُ يديه من البرد، وكانوا مرحين . جميلين . ودودين. ومرحِّبين جداً بي. قال لي زياد ” تعال شوف الشارع”. خرجتْ . جلستُ على الأرض في منتصف الشارع الذي كان شبه خالٍ من السيارات. جلستُ ومددتُ ساقيَّ على طولهما. مثل ولدٍ يلهو. أو يتعلَّم الأسماء على ركبة أمِّه.

يا الهي ؟ هل هذه فلسطين !

طعم الهواء ، رائحته ، ملمسه اللين ، مذاق الأنفاس، شكل الغيم، كأنني في رواية سحرية، كل شيء وكل أحدٍ هنا يدعوك للعناق. للبكاء. للصراخ. كأنني أريد في هذه اللحظة أن أصرخ في العالم : أيها العالَم وجدتهم ! وجدتُ أهلي ! شكراً لك أيها العالَم الذي أمسكت بيدي خمسين سنة كي لا أضيع في الزحام ! شكراً لك . ها قد وجدتهم. وها هم الآن يمسكون بيدي !

جلستُ في وسط الشارع، أحسستُ الإسفلت تحتي يشدٌّني، أسلمتُ نفسي لأرض رام الله، لترابها المفدَّى، مددتُ ساقيَّ أمامي؛ يا الهي هل هذه بلادي ؟ مِن هنا أنا ؟!

ثمَّ دخلتُ المقهى. رحتُ أتأمل الوجوه. كبَّايات الشاي على الطاولات. كراسي الخشب. الصور على الجدران. ملابس الأصدقاء. طريقتهم في الكلام بالفلسطينية الفصحى. 

إذاً لم أكن يتيماً أيها العالم. كان أهلي هنا؛ على بعد ساعة من المشي فقط !

كنت أريد أن أصرخ بهم: اتركوا شايكم قليلاً ، تعالوا أعانقكم وأعطي كل واحدٍ منكم حصَّته من الحنين الحامض.

لكنَّهم ما كانوا ليفهموني.

لا يفهم اللاجىءَ غير لاجىء مثله !

لن يفهم ارتجاف ساقيّ الذي كنتُ أخبؤه تحت الطاولة إلا الغريبين الموزعين الآن في بلاد بعيدة ونائية. كانوا يسترقون النظر اليّْ، وأنا أسترق النظر اليهم. مَن منَّا الأضعف؟ من الذي خَسِر ؟ مَن يغبط مَن ؟ ينظرون لي كسائح ربما ! يسخر البعض من عواطفي . وربما يقول في سِرِّه : يعيش في دبي فما الذي يعجبه بهذه الـ “رام الله ” النصف حرّة أو أقلّ ؟!

وأنا أراقب البخار الذي يتشكَّل على باب المقهى الزجاجي. وأحسد كل شخص يجلس هنا، وأحدِّق فيه: كيف شكل بيته؟ هل لديهم نوافذ وطاولات وملابس نوم؟ هل سيعودون الآن الى بيوتهم ؟ هل يحملون مفاتيحها الآن ؟ كيف يذهبون للبيوت ؟ هل لديهم سيارات أجرة، وحين يصعدون السيارة ماذا يقولون للسائق: خذنا الى فلسطين؟ أم أن السائق هنا في هذه البلاد القليلة يحفظ أسماء كل الناس ويحفظ بيوتهم ؟ هل للشوارع أسماء ؟ هل للبيوت درج ؟ هل هنا صيدليات ودواء للصداع ومخابز؟ هل يتشاجر الرجال مع زوجاتهم؟ هل يكبر الأطفال مثلنا كل سنةٍ سنةً واحدةً فقط ؟!

كل تلك الأسئلة كانت في رأسي تتلاحق، وتزاحم بعضها، لكنني أجلس بينهم بمنتهى الهدوء،أستمع الى ترحيبهم ومحبتهم، وأضبط كلماتي المقتضبة بإحكام؛ إذ لو سمعوا صراخي واسئلتي فلن يصدقوا انني لا أصدِّق بشريتهم وعاديَّتهم !

لكنِّني كنتُ أراقب بفضول: كل حركةٍ . كل كلمة. أريد أن أرى كيف يعيش الناس في مسقط رؤوسهم وكيف يتصرفون. فمن المؤكد أن للحياة في “الموطن الأصلي” تقاليد لا أعرفها !

بعد ساعات من الحب المضني أخذوني الى “الأوتيل”، وعادوا الى بيوتهم.

ها أنا يا فلسطين أدوّن اسمي الناقص في سجّلات الأوتيل كأي زائر عابر، ظل ساعات يحدِّقُ في وجهك ولم تتعرّفي اليه !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى