ذهبتُ إلى “هُنــا ” (6) / إبراهيم جابر إبراهيم

الجسرة الثقافية الإلكترونية -خاص- 

كان الشتاء قد بدأ ينزل بغزارة حين وصلنا اوتيل ” بيوتي إن “.

وقفتُ على باب الفندق الخارجي أمسح قدميَّ الحافيتين من الطين حتى لا ألوث ردهة المكان النظيف، وبينما أنا أحفّهما على الدرجات المبللة ارتجفتُ وقلتُ لي : أليس هذا الذي تمسحه هو نفسه تراب الوطن !!

التراب الذي انكتَبَ عنه ثلاثة أرباع الأدب الفلسطيني !

التراب الذي جئت تبوسه وتأكله والذي لأجله مات نصف هؤلاء الناس وتشرد كل اؤلئك الناس وسجن ناس واغتيل ناس وبكى ناس و.. وقفزتُ عن السؤال المرعب كأنَّ سلكاً كهربائياً مسَّ قدَمَيّْ!

ليس الآن وقت البلاغة، اتركها لأؤلئك الذين في المنفى ليصفوا حنينهم، أنت الآن في منتصف الوطن، فادخُل برشاقةٍ الى حضنه، .. فدَخَلتْ !  

كان وراء طاولة الاستقبال شاب عشريني مرح، مشغول على الكمبيوتر، واستطعتُ أن أرى طرف صفحته على “الفيسبوك”، بجانبه مدفأة كهربائية، وهاتفه موصولٌ على الشاحن، وخلف الاستقبال باب المصعد، بجانبه كفتيريا صغيرة، .. كان للشاب فمٌ وأنف ويدين.

صعدتُ الى الغرفة، وضعتُ اشيائي وركضتُ الى السرير تكوَّمتُ فيه وتغطَّيتُ ورحتُ أراقبُ كلَّ شيء حولي: بقيت لساعتين صافناً مُحدِّقاً في السقف، في الكنبة، في الستائر، كمن يجلس في غرفة ضيوف، ثم نمتُ بهدوء.

استيقظتُ في الرابعة فجراً، كان صوت الرياح والمطر يسقطُ على النافذة، نظرتُ من الزجاج بخوفٍ وتردد: رأيتُ شارعاً جميلاً، وسماء غائمة، وهواء قويا يهزُّ الأشجار العالية. وسنسلة حجرية وأشخاصا قليلين يمرّون مسرعين يخفون وجوههم من المطر والبرد.

شكراً يا الله أنني صحوتُ يوماً ما في فلسطين، أنا راضٍ الآن. وأعدك أنني لن أحلم بعد هذا الصباح بشيء . شكراً لك ولذلك الشاب الذي يضلُّ يضحك : سامح خضر.

في الفنادق التي نزلتُ فيها قبل ذلك، في بلادٍ أخرى، كنتُ أعيثُ استمتاعاً وتقليباً بالأشياء، وآخذ تذكارات بسيطة مثل عبوات الشامبو الملوَّنة الصغيرة، أو منفضة سجائر، لكنَّني هنا وجدتني أغلق حنفية الماء بسرعة، أطفىء لمبتين وأبقي واحدة، أقتصد جدا في استخدام الصابون، وأمسحُ المغسلة بيدي كلَّما استعملتها.

انتابني شعور الأخ تجاه كل “الأشياء”، حتى الستارة التي فتحتُها برفق كأنَّها ألبوم صور لأمّي.

في كل بلاد أزورها كنتُ أخرج في الصباح التالي أمشي في الشارع القريب وأتعرَّفُ من باب الفضول على المكان، لكنني هنا شعرتُ بالرهبة، ولم أجرؤ على التحرك في مكاني.

وكنتُ كل قليل أقومُ أتلصَّصُ على المشهد من النافذة : في كل بلاد الدنيا تسأل حالك كم ثمن متر الأرض هنا ؟ إلّا هنا تسألُ : كم شخصاً ماتوا من أجل كل مترٍ هنا ؟

لن أتحدث هنا عن الحفاوة التي أربكتني منذ أول صباح، عن تلك المحبة الهائلة التي لن أكون قادراً في يومٍ على ردِّها، عن ذلك العناق الحميم الذي لقيته، عن ذلك الكرم في البيوت التي تخاطفتني، والقلوب التي تنازعتني، وكنتُ أفهم أنَّه كما أرى انا البلاد فيهم، كانوا يرون المنفى فيّْ، ومن خلالي يحاولون القول : في كل بيتٍ هنا غرفةٌ جاهزة لشخصٍ ما سيجيء يوماً من هناك !

لمن سأقول شكرا ؟

لن أقول شكراً لأحد. تلك كلمة بذيئة في هذا المقام .

سأبحثُ دائماً عن كلمةٍ أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى