ذهبتُ إلى “هُنــا ” (8) / إبراهيم جابر إبراهيم

الجسرة الثقافية الإلكترونية -خاص-
سيأخذني الأصدقاء اليوم الى مخيم ” عقبة جبر”، الى أريحا، لأبحث عن بيت أهلي.
لا أعرف إن كان ثمَّة مَشَقَّة تشبه ذلك، ولا أعرف إن كانت الروح ركَضَت قبل ذلك كما تركضُ الآن.
هذا المسير الذي حلمتُ به كل ليلةٍ منذ سبعة عشر ألف ليلة، هذا الحلم الذي كان يحزُّ الروح كما يحزُّ سكِّينٌ جِلد البرتقالة ، ويتركُ أثره كسلسلة ذَهب.
أن أرى ” البيت” : حيث كان أبي وأمي عروسان. حيث تبادلا الضحكات قبل ان يقضيا عمرهما كاملاً بالأبيض والأسود. حيث جلس اشقائي وشقيقاتي على العتبة أطفالاً ثم كبروا. حيث ولدتُ وأسمتني أمي مصطفى كما اسم أبيها ثم جاء والدي وأسماني باسم أبيه. حيث كنا عائلة. حيث كان لأبي مزرعة دجاج كبيرة ولأمي أوانيها وأثوابها المطرزة وكانت صبيّة وتنجب الأولاد. حيث كنا “مواطنين” قبل ان تغير الطائرات على بيتنا ونخرج مشياً تحت عوائها الى الضفة الأخرى فنصير”نازحين”.
“وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ” … تظلّ هذه الآية من سورة (يس) تذكّرني به، حين كنتُ أصحو ليلاً، من رجفة الغطاء الخفيف، والعائلة كلها تنام في غرفةٍ واحدة، فأجده جالساً يقرأ القرآن بصوته المترقّق المتهدج، وهو يضع لحافه على كتفيه، ويغالب دمع الخشوع، .. فأظلّ منصتاً له، ينتابني ورعٌ لا أعرفُ وأنا الطفل كيف أبرهنه، فأروحُ أحمل بطانيةً أضيفها على جسده النحيل، فيبتسمُ لي من خلف النظّارة المكبّرة، ويظلّ يقرأ .. وأظلّ أنتظر الآية الأخيرة من سورة (تبارك) التي ما إن أسمعها ( أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماءٍ معين ) حتى أعرف أنه بعدها، كما كلّ ليلةٍ، سيطوي كتابه، ويقوم ينفخ على صوبة الكاز يطفئها .. وينام .
ومع أنه سلّم قهراً بأن الإحتلال أخذ أريحا، وأغلق مزرعته على دجاجاته في “مخيم عقبة جبر”، لكنه يظلّ يتحدث عن تلك الدجاجات كما لو أنهن الآن بعد حوالي خمسين سنة ما زلن يتراكضن هناك بمناقير مفتوحة ينتظرن كمشة العلف من يده!
وظلَّ يحتفظ بدفتر كبير رافقه حتى مات فيه ديون المزرعة ومصاريفها وحساباتها.
ويقول لي : لمّا شَرَدنا من البلاد مشياً إلى عمان، كانت الطائرات تحلّق فوقنا، وكنتَ انتَ طفلاً نزقاً، بكاؤك يفضحنا، فخبأتك تحت جسر صغيرٍ مهجور، ومشينا من دونك لحوالي كيلومتر، (يضحك ثم يكمل لي مبرراَ) خشيتُ ان تسمع الطائرات صوت بكائك فتدلّها علينا وتقصفنا، .. لكن بكاء أمك جعلني أعود لأحملك، لتواصل العائلة رحلتها الماشية !
أقول لكم الحقّ ؟
طيلة الحوالي خمسين سنة، لم أشعر أنني لاجىء تماماً، وبشكل بالغ الألم، إلا مرّتين: حين دسست أمي، وأبي، في جارورين من ترابٍ ليس لي.
ها أنذا يا أبي أعود وحدي دون كل تلك “العائلة الماشية”، لكنِّني كلما قلتُ هذه الكلمة: ” أعود” ، أحسُّني أضحكُ على حالي !
أنا مجرد زائر، لن يعرفني أحدٌ هنا ولن أعرف أحد. لن تنادي علَيَّ أمي لأغلق الباب، لن أعرف أين لحافي، لن أجد رائحة اشقائي الحبيبين، ولن أتعرف على باب بيتنا حين أقف أمامه !
سأمرُّ على جدران بيتنا كما يمرُّ أي ليل. سرعان ما ستمسح ظهيرة الغد أثري !
هاي هي السيارة تقف بنا ” هنا”، “هنا” التي لي، على باب “مخيم عقبة جبر”، ها إنني أتنفس أوجع شهيق في حياتي، وأبتلع أغلى كمشة هواء صنعها الله !