رؤى انسانية في ديوان: «تلالي تضيق بعوسجها»..

الجسرة الثقافية الالكترونية –

 خزاري عبد الحميد المناصير

الشاعر هو لسان الأمة الناطق، وضميرها الحيّ، وله دورٌ في توجيه المجتمع؛ فالنص الشعري ينبع من المجتمع، ثم يعود ليصب فيه مرة أخرى؛ فهو متصل بواقع المجتمع الذي نشأ فيه. والشاعر يحمل في داخله هم الأمة كلها، ويحمل وزر كلمته وحده؛ فكم من شاعر قضى نَحْبه في سبيل كلمة نطق بها عندما واجه مجتمعه بعيبه!.
وفي قراءتي لديوان «تلالي تضيق بعوسجها»، الصادر عن عجلون مدينة الثقافة الأردنية 2013، سوف أتناول السمات العامة لقصائده، مع العودة لبعض القصائد بشيء من التفصيل. ولا أزعم بأن هذه الطريقة هي من أفضل الطرق في تناول وتحليل قصائده؛ بل هي محاولة بسيطة لتسليط الضوء على بعض الجوانب، دون أن تفقدها معناها العميق.
ضمّ الديوان: «تلالي تضيق بعوسجها»؛ ستاً وثلاثينَ قصيدةً، وتشفّ عناوين القصائد عن مضمونها، دون الحاجة إلى إعمال العقل. وقد جاءت الألفاظ واضحةً ورشيقةً، وبعيدةً عن التعقيد، وقد تنوعت الصور الخيالية التي رسمها الشاعر بتقنية خاصة بقصيدة النثر، بكل  ما فيها من شعرية ابداعية متميزة.
يقدّم الجنيدي تجربةً شعريةً ملونةً بانفعالاته الذاتية الخاصة، وتسيطر عليه عاطفة الحب، والحلم الجميل –الذي لم يكتمل-، ولكن بقالب حزين؛ فهو في حبه كطائر «السنونو» الوفي في عشقه، الذي وظّفه في بعض قصائده كدلالة رمزية على الوفاء. ولم تفارقه هذه العاطفة طوال قصائده أبداً، وتظهر آلامه وجراحه التي يعانيها بشكل ملحوظ في قصيدته «في مدارات الصدى»؛ فمن خلال هذه القصيدة نقرأ حالة الضيق والوحدة التي يعيشها الشاعر، ويصف جراحه وكأنها «ودياناً من الكلوم»! ويترجل فارسنا المهيوب عن صهوة حصانه؛ لشعوره بالضعف، ولكنه يتطلع دائماً إلى غد أفضل يُزيل عتمة أيامه السابقة، ويتمرد على ما يقيّد حريته.
ويحاكي عمار الجنيدي معاناة الأمة الغارقة بالدماء في قصيدة «الصهيل»؛ ذلك الصهيل الذي:
«يصرخ في أودية السراب
ولا من مجيب».
ويصف أولئك السادرين في صمتهم؛ فلم يعد للقلم تلك القوة:
«ماذا يمكن أن يقول القلم
بعدما غفا السيف
على الجدار؟!..
الخيل تاقت للصهيل؛ 
تاقت لفارس يمتطيها
يصول في ميدان الوغى ويجول
الخيل تستنهض الهمم
لكن الصهيل
يصرخ في أودية السراب
ولا من مجيب».
والجنيدي يراهن على صداقاته، لكنه يخسر رهانه على الصداقة؛ فقد أفرد أربع قصائد «تهويمة، الرهان، صداقة، وخيانة»، ولعلّ قصيدة «خيانة» تصف ما تعرّض له من خذلان، وخسران الرهان؛ فيقول:
«لستُ بنادم
بعد ضياع العمر
إلاّ على هذا الجاحد.
بيدي أطعمته لوزاً
بيدي أسقيته خمراً / شعراً..
وحين اجتراحي قصيدة:
يَعِنُّ لِغَدْرِهِ أن يَنْهَشَ الهدوءَ
فينتبهَ انتباهي.
بيدقٌ على هامش الحياة يحبو
تحرِّكه نزوة الخيانة
فَيَدُلَّ «إبرهة الحبشيِ» على حرائر القوم
يرشد الفيلَ إلى موضعِ الكعبةِ
يومئُ لفارسٍ أسود:
هذا قبر حاتم.
وهذا شاعرٌ يحبُّ الوطن.».

فليس هناك صداقة حقيقية في حياة الشاعر، وإنما صديقه يسكن في وجدانه.
 ويبرز موقف الشاعر من المدينة «عجلون»؛ إذ يقول:
«لا حزن بعدك

يا عجلون
لا مواويل تحرث حقول الشك بذاكرتي..
وكل الأسئلة بعدك صارت
بلا معنى»..
هذه المدينة التي يحب، ويذكر أماكن مثل «تلال الصوان، والمحافير»، فهي أُقحوانة لا يستغنِ عنها، وهو بدونها «سيف……. بلا مقبض…. نسرٌ بلا أجنحة».
وقد عمد الشاعر إلى تكرار الصورة لحاجة نفسية؛ فالصورة الواحدة لا تستطيع أن تمتص حرارة الدلالة التي تكمن في أعماق الشاعر؛ فهو يكرر في قصيدة «خطوات على أرصفة الحياة» قوله:
«ويتنفس تفاصيل المستحيل
يتنفس تفاصيل المستحيل»…
ويستمر في تكرار بعض العبارات والكلمات في القصائد، وذلك شكّل إيقاعاً داخلياً لأبيات القصيدة الواحدة . وكما في قصيدته «خطوات على أرصفة الحياة» حيث يقول:
«لن يتيه خطونا بعد اليوم
أبدا،
فوجدانكِ الملفّع بالشذى
يلبس مئزر روحي     
ويتنفس تفاصيل المستحيل
يتنفس تفاصيل المستحيل»…
وقد استخدم التناص في بعض قصائده كإشارة سريعة؛ فيقول في قصيدة «خيانة»:
فيُدلّ «إبرهة الحبشي» على حرائر القوم يرشد الفيل إلى موضع الكعبة يومئُ لفارس أسود: هذا قبر حاتم…
 وأيضاً عمد الشاعر إلى توظيف الأسطورة في قصائد الديوان؛ كأسطورة «داحس والغبراء»، و»المسيح»، و»عشتار» ، فيقول في قصيدته «جرح لا يلتئم»:
«وأن جرحي سيبقى مثلوماً
إلى أن يقوم المسيح»…
ويوظّف الرمز هولاكو كرمز للظلم والجبروت واستباحة الروح والاستيلاء على مقدرات الكرامة والشموخ:
«هولاكو:
يصلبُ براءتي على صاريةِ الفشل،
ينتزعُ منّي صوتي،
ويرهنُ لصهدِ الشمسِ قرباناً:
 دَمـــــي»..
وهو بذلك يرمز إلى المعاناة والآلام التي يواجهها بإحساسه المرهف.
ويظهر في الديوان: أربع قصائد جاءت قصائد ومضة؛ كأنها دمج بين الشعر والقصة القصيرة جدا، وهذه القصائد هي: «مخاض، قناعة، حرية، وفي البدء»..
ففي قصيدته «في البدء» التي اختتم بها ديوانه:
«في البدء
كانت الرغبة
ثم كان الظلم
ثم كنت أنا»..
ولا غرابة في ذلك فالجنيدي شاعر وقاص في الوقت نفسه.

الدستور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى