‘رئيس التحرير’ .. رواية الشعراء والصحفيين

مي فاروق
لا زلت أتذكره جالساَ على يسار القاعة، والتي رغم اتساعها لم أر منها شيئاَ سوى أجهزة التصوير، وأشخاصٍ يعملون خلفها، يذهبون يميناَ، ويساراَ، حركتهم المستمرة لم تجعلني أتباعهم، صوت المخرج العالي وتعليماته لم تكن لتشغلني عن رؤيته بوضوح، كان وحده جالساَ في هدوءٍ وبساطة، أضواء القاعة كانت خافتة إلا من بقايا أشعة الشمس، حاولت أن أبدو واثقةَ من نفسي، خاصة عندما سألني: مستعدة؟ أجبت مترددة: نعم أستاذ، وجلست أراجع معه الأشعار التي كان علّي إلقائها وقراءتها، لتبدأ بذلك أولى تجاربي الإعلامية، بل الأدبية معه، إنسياب الكلمات من فمه بلا عناءٍ، كأنها تمضي معه لموضعها بشكل طبيعي جعلني أُقاوم التأتأة التي لازمتني في البداية، لكن قدرتي قويت عندما قال لي بكل ثقة: مي، أرى الاتجاهات بك تضيق، وبابتسامةٍ يواصل كلامه المحدود: لابد أن تغرد البلابل.
هكذا تذكرت أول لقاء لي بالشاعر أحمد فضل شبلول، في قاعة مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي، بدولة الكويت الشقيقة، حيث كان وقتها مسؤول إعداد برمجي وثقافي لقناة البابطين الثقافية، وكنت وقتها في أولى تجاربي كمذيعة ثقافية، كنت كدلو فارغٍ يُفتش عن شيء يملؤه، فكان هو مَن يملؤني حماسةَ قبل المعرفةِ، كان عندما يخرج من القاعة يبدو أمامي كالطيف الذي يترك بقاياه ضوئه ويرحل.
انتهت تجربتي التلفزيونية معه، وأنا منتصرةٌ، فلم تعد الشوارع أمامي غريبةَ، ولم تعد الأبواب مغلقةَ.
وتابعته وقرأت بعضاَ من دواوينه، وأعماله، وكان “رئيس التحرير” آخرها، ووجدت خطوطا متشابهة بيني وبين تلك الرواية، أهمها حداثة التجربة، فلأول مرة اجتمع مع استاذي في شيء، أنا وهو نبدأ، هو يبدأ الإبداع الروائي، وأنا أدعي البدء في الإبداع النقدي والصحفي معا، ولأنني تعلمت منه كيف أكون كريمة ليس نحو الأشخاص فحسب، بل للفكرة المجردة ذاتها، لذلك سأكتب له أولا، ولكم، كيف قرأت روايته.
• أهواء السيرة الذاتية:
عنوان احترازي، وتفسيري استخدمه الكاتب ربما ليخرج من مأزق الوثب الزمني في الرواية، وتبرير تلك الإيقاعات الفردية، التي ميزت فصولها، فجعلتها تبدو كلقطات ولحظات مؤثرة في مسيرة الراوي.
كلمة أهواء موفقة، وطريفة معا، موفقة لأنها أعطت تفسيرا ضمنياَ لما اختاره من مواقف، ولما استبعده، وطريفة لأنها فتحت شهية القاريء للمتابعة، ليجد أنها لا تعني سقطات، بل ان علاقات يوسف عبدالعزيز النسائية لا يمكن أن نصفها بالجريئة، بل كانت حذرة وأحيانا على استحياء، وربما لأن شخصية يوسف كانت محافظة وهادئة، تتعامل مع الأشياء والأشخاص والمواقف بحذر وحيطة وأحيانا تردد.
أما عن السيرة الذاتية، فهي منهج روائي يتبعه أحمد فضل شبلول بادئا به محطته الروائية، وهي لها نكهة خاصة للذات المحورية، تتسم بالتعبير الذاتي النابع من الخطوط العريضة لحياة كاتبها، مستخدما أسلوب السرد والحكاية المسرودة بضمير المتكلم، والذي كان ممتعا وسلسا، حيث أجاد في صنع حالة من التناغم بين السارد والبطل.
كما أجاد المؤلف في إدارة اللعبة الزمنية، فقد اختزل الزمن الواقعي لزمن درامي، فقد مر على تحولات المجتمع سريعا دون أن يُحدث أَي تشوه أو تناقض.
لم يكن التعامل مع الزمن العريض وحده ما أجاد فيه المؤلف، بل التعامل بعبقرية مع تعدد المكان، مدن عربية كثيرة ذكرها في روايته وعبر رحلته ونسجها بذكاء داخل الحدث الصحفي دون أن ينزل من السطر؛ الاسكندرية، القاهرة، أبوظبي، عمّان، بغداد، كلهن مع الكلمة في عطاء مفتوح.
بعد قراءتي للرواية قفزت في ذهني عدة تساؤلات، وأحيانا تأويلات، رغم إن من يكتب عن ذاته، لا يحق لنا أن نسأله متى، وأين، ولماذا، بل نتعامل باستسلام لما يكتب، لكن يحق لنا أن نتعامل مع جدلية المكان والزمان والموضوع، بتأويل. فإذا كان المتن السردي للسيرة الذاتية بمثابة خبرٍ لمبتدأ، فإن النص الروائي للسيرة الذاتية نص مثقوب نملؤه بالتأويل.
وأول سؤال هنا، لماذا بدأت الرواية، وهي سيرة ذاتية، برحلة مقطوعة؟
نعم، لم يذكر الكاتب محطاته السابقة والمتعددة في ميدان الكتابة، فهو لا يُصنف صحفياَ، بل أديبا تعامل مع عوالم متعددة للكتابة، وفضاءات ابداعية رائدة، بدءاَ من الشعر، للكتابة للأطفال، ومحطة الدراسات الأدبية، والمشاركة في أعمال موسوعية ومُعجمية.
فلماذا أختص التجربة الصحافية دون غيرها من تجاربه التي ربما كانت أكثر نجاحا، بل وأكثر تواؤما من نفسه، ولماذا خرج من اللحظة الفردية الإبداعية التي نجح فيها بجدارة، وهو ذلك المولع بالكتابة تحت سقف أجناسٍ أدبية مختلفة، إلى الوظيفة الإجتماعية التي عاشها كصحفي؟
فهل رحلته الصحافية والإعلامية وحدها كفيلةٌ بالسرد؟ رغم أنها تبدو من خلال سرده أعظم تجاربه قسوةَ وحيرة؟
أتصور أنه اختص هذه اللحظة لاعتبارات أهمها:
علاقة الصحافة بالأدب:
دخل أحمد فضل شبلول الصحافة وهو أديب، وشاعر، ومواطن مثقف، كان عليه عندما دخل السلطة الرابعة (الصحافة) أن يخلع عباءته الشعرية بمجازتها واستعاراتها، ليدخل إشكاليةَ جديدة، تخص المصلحة، والجماعة الافتراضية أكثر مما تخص السلوك الإبداعي نفسه، فالصحفيون يتعاملون في أكثر الأحيان، كمراقبين يتولون حراسة سلطة النظام، وذلك ما أوضحه الكاتب من تجاربه العملية، منذ مظاهرات ١٨و١٩ يناير ١٩٧٧، وصولا لثورة ٢٥ يناير.
ورغم انه اختص تجربته الصحافية في الخليج، وبرغم ابتعاده عن الصخب الدائر في الصحف المصرية، الا ان تجربته لم تخل من توترٍ، ومواربة من العاملين، ومن رئيس التحرير.
فقد دارت الكواليس في الصحافة العربية مترنحة ما بين لحظة الإبداع، وقسوة الأوجاع، وكان الاختيار فيها مرهون بابتسامة النساء. إن اللحظات التي رصدها المؤلف في مشواره الصحفي جعلته يتجول بين قمة السعادة وقاع الألم.
الأمر الذي يجعلنا نقول إن الصحافة قد تُدخل الأديب في دوائر متداخلة، وأنها تحدد دوره في ممارسة الحبكة المرتبطة بالواقع والممارسات الحياتية، وتجعله مدنيا قبل ان يكون اجتماعيا، ينبض بالحقيقة التي لا تعني مطلقا في العمل الصحفي نفي الحقيقة، وحتى يفض هذا التورط في نهاية الرواية يجعل يوسف عبدالعزيز يقدم استقالته ويعود للإسكندرية، رغم ان بداية السرد كان فصلا بعنوان “ألاعيب ثقافية” فهل عاد يوسف لمثل هذه الألاعيب؟
الأمر الثاني الذي يطرحه رئيس التحرير بشكل غير مباشر، هو:
هل يختلف النص الروائي إذا كتبه شاعر؟
هناك فاصلٌ هندسي ليس بعظيم بين الشعر والرواية، فما بين جُبة الشعراء، ومعطف الرواية قرابة فنية، كثير من الشعراء يكتبون الرواية، بينما قليل من الروائيين يكتبون الشعر، هذا يعني ان الشاعر اذا أضاف البعد المعرفي والوعي والتحليل ويطرح حلولا اجتماعية فإنه هنا يستطيع تحويل التطور البلاغي إلى تطور درامي وسردي، فالمسافة الفاصلة بينهما شفافة وليست ببعيدة، غير أنه في عصر ثقافة الصورة تحتل الرواية مكانا ومكانة، لكنه أحيانا السرد يتحدث شعرا.
في نهاية صفحات الرواية تتصاعد موهبة الكاتب لتصل لقمتها حينما يجعل النهاية مفتوحة وجدلية، فهل عاد يوسف للمد الروحي والصوفي، أم اعتزل الحيرة بالعمل الصحافي دون الإبداع؟
مخزون مطروح من الأسئلة والأفكار لمصير يوسف، الذي كان طوال الرواية كغريب لم يمل يوما من الهجرة، فهل عاد فائزا أم مستسلما؟ وهل وجد مكانه في الاسكندرية رغم أن البحر فيها لا ينام إلا وحيدا؟
وفِي نهاية اللعبة التي مارستها الْيَوْمَ ما بين الإبداع والنقد، أقول لأستاذي أحمد فضل شبلول، كنتُ بعضا من إبداعه، شأني شأن غيري من تلاميذه، وأنني سأكتفي بوصفه كما خطت أنامله:
مسافرا؟
وراءك النهار والبحار والطريق
ونسمة كانت تداعب النوارس المهاجرة
وبسمة تسابق الأحضان
للحبيب والصديق،
ودمعة بالأفق تلتحم.
(ميدل ايست اونلاين)