رائحة اللوز المرّ بوصفها مختبرًا فرويديًا/ د. غسان إسماعيل عبد الخالق (الأردن)

الجسرة الثقافية الالكترونية -خاص-

 

* حلال لهم… حرام علينا!

ترددت كثيرًا قبل أن أقرر المضي في قراءة هذه الرواية. وترددت أكثر قبل أن أقرر الكتابة عنها. ولا أبالغ إذا قلت إنني أعدت كتابة كل جملة مما كتبت. وأما بخصوص عنوان المقال فحدّث ولا حرج؛ فقد أخلى العنوان الأكثر بداهة والأكثر إثارة للصدمة، مكانه، للعديد من العناوين المحايدة المهذبة، التي قد تعكس جانبًا من ظلال المضمون والدّلالة، لكنها ستظل قاصرة عن الوفاء بإيصال محمول (رائحة اللوز المرّ) شكلاً ومضمونًا.

ومع أن الموروث الثقافي العربي يمور، بعشرات المؤلّفات التي تصدّت للجنس، توصيفًا وتحليلاً، وتمت طباعتها كما تم تداولها على نطاق واسع جدًا، بأقلام العديد من كبار النقاد واللغويين والفقهاء، كالجاحظ والسيوطي والتيفاشي والنفزاوي وابن كمال باشا، إلا أن العديد من الخطوط الحمراء ما زالت تقف بالمرصاد لكل كاتب معاصر تحدّثه نفسه بالخوض في هذا المحذور والمحظور. وكأن لسان حال الرقيب يقول: الخوض في الجنس محلّل لكتاب القرون السالفة ومحرّم على الكتاب المعاصرين! هذا غيض من فيض تداعيات رواية (رائحة اللوز المرّ) لقاسم توفيق، والتي تباغتنا بدءًا من صفحة الغلاف بعنوانها المريب، عنوانها الذي كنّى به مؤلّفها، عن رائحة سائل الحياة!

 


* من أبيقور إلى فرويد

ما أكبر الفرق بين العبث والمجون واللهو المبتذل السطحي الطائش وبين المتعة واللذة والعربدة المقصودة المتعمّدة المخطّطة!!! فالنوع الأول ينتمي لعالم الملاهي والنوع الثاني ينتمي لعالم الفلسفة!!! وإن كان الأول لا يحتاج إيضاحًا أو بسطًا فإن النوع الثاني يقتضي منا التنويه بمؤسس مذهب اللّذة وفيلسوفها الأشهر أبيقور الذي لم يكتف بالدعوة إلى تنصيبها هدفًا أسمى لحياة الإنسان فحسب، بل تعدى ذلك إلى القطع بأنها التعبير الحاسم عن أخلاق القوة والإقدام التي تزري بأخلاق الضعف والجبن التي بشَّر بها نظيره فيلسوف الفضيلة زينون الرّواقي.

لم يحتج النوع الثاني أيضًا إلى فلاسفة محترفين في العصر الجاهلي، كي يبسطوه أو يزيدوه إيضاحًا، فاهتدى له بعض شعراء العصر دون عناء وأورثونا لوحات ما زالت تمثل الغاية القصوى في امتياح اللذات الحسيّة وتشخيصها، مثل لوحة المُرْضع التي خلّدها شعر امرئ القيس. وأما في العصر العباسي فقد راح هذا النوع من المجون الحسّي المفلسف، يقترن بمواقف أيديولوجية وقومية وسياسية تم إجماله وإجمالها تحت مسمّى (الزندقة) الذي أودى بحياة غير قليل ممن نسبوا إليه.

 ولأن الأفكار لا تفنى، لكنها تستحدث، فقد أعاد سيجموند فرويد إنتاج الأطروحة الرئيسة لأبيقور تحت مسمى (التحليل النفسي) وزعم أن الدافع الجنسي هو محور حياة الإنسان، إلى درجة القطع بأن هذا الإنسان يقضي عمره وهو يجتهد للارتقاء بهذا الدافع إلى مستوى مقبول اجتماعيًا؛ فينخرط في الأنشطة الدينية أو الخيرية أو السياسية. لا بل زعم أن أكثر الناس اصطلاء بهذا الدافع هم الفنانون والأدباء، إلى درجة القطع بأنهم ليسوا أكثر من كائنات عصابية تقضي عمرها في العمل على إحراز توازنها النفسي، عبر الفن والأدب اللذين من شأنهما أن يشعرا هذه الكائنات بالتطهر التام والرضا عن الذات المكبوتة على الدوام.

* سيرة ذاتية جامحة

ما تقدم من عرض فكري موجز جدًا، يمثل نبذة مكثفة تهدف إلى امتصاص مشاعر الصدمة التي ستجتاح القرّاء بتفاوت متوقع، إذا علموا بأن الرواية الأحدث للكاتب قاسم توفيق (رائحة اللوز المر) تمثل حوارًا داميًا وطويلاً بين رسام مكبوت جنسيًا وبين شهوته، إلى الحد الذي غاب معه اسم الرسّام وظل اسم شهوته يتردد مكشوفًا دون تحفظ.

فعلى امتداد 256 صفحة من القطع المتوسط، نستمع، مشدوهين، لاعترافات رسام يقع فريسة شهوته الجامحة منذ الصغر، فيسهب في وصف هيمنة هذه الشهوة على مشاعره وأفكاره وعلاقاته ومواقفه منذ بلوغه وحتى اكتهاله؛ فالطفل الوحيد الذي فقد أباه في الرابعة من عمره وعاش في كنف أم مثقفة جميلة وحانية، سرعان ما اكتشف سر ذكورته من خلال أقران الحي وبالتزامن مع تصاعد مهاراته في الرسم، فسارا (ذكورتُه ورسمُه) بعد ذلك في خطين متلازمين متطابقين وعلى نحو جدلي، إذ تبادلا الأدوار على صعيد إشباع هوسه الجنسي الذي لم يكد يتوقف عند حد، فشمل بنات الجيران وبعض زميلات الدراسة في الجامعة، وبعض المعجبات بلوحاته في الأوساط الفنية والثقافية. ومع أنه تزوج من امرأة متعلمة ومثقفة وجميلة تحبه ويحبها، إلا أن هوسه الجنسي بالنساء لم يتوقف، فواظب على إشباع حاجات زوجته باستمتاع، بالغ كما واظب على خيانتها في آن واحد، إلى أن بلغ الأربعين، فقرر الاتجاه إلى التدريس الجامعي والاستمرار في الرسم، حرصًا منه على إحراز المزيد من الاستقرار المعيشي له ولزوجته. 

لكنه وفي ذروة نجاحه الأكاديمي، يقع فريسة طالبة جامحة تمثل نسخة شهوانية أكثر ضراوة منه، فيضطرب إيقاع حياته إلى درجة أنه لم يعد قادرًا على الموازنة بين واجباته الزوجية وبين نزواته كما كان يفعل وينجح سابقًا، وتلح عليه زوجته بضرورة الابتعاد مؤقتًا عن العمل والأصدقاء والضوضاء، وتدفع به لقضاء إجازة في فندق ريفي معزول، فيقضي فيه أسبوعًا كاملاً وهو يسرد على مسامع خادم الفندق الأطرش الأخرس أدق تفاصيل حياته، وتهدأ نفسه ويزايله قلقه وتوتره، ويعود إلى زوجته وأصدقائه وعمله، ثم يستأنف هوسه الجنسي إلى درجة التورط التام مع طالبته التي يتبين أنها ليست أكثر من مومس محترفة ترتبط بشبكة دعارة منظّمة، فيتعرض بسبب رفضه الابتعاد عنها، لاعتداء جسدي مبرّح يكاد يودي بحياته. ومع ذلك فقد رفض توجيه الاتهام لشخص أو لجهة، رغم معرفته بأن الشبكة التي تنتمي لها طالبته هي المسؤولة عن الاعتداء الذي تعرض له، وذلك من باب الحرص على عدم لفت الانتباه لخفايا وتفاصيل سيرته الحمراء. ويبدو أن الصدمة التي تعرّض لها جرّاء هذا الاعتداء، قد كانت عنيفة إلى درجة أنه قرر العودة لزيارة ذلك الفندق الريفي المعزول، مصطحبًا لوحة كان قد رسمها لذلك الخادم الأصم الأبكم، ليفاجأ بعد أن وصل الفندق وألقى التحية على الرجل العجوز الذي يجلس خلف مكتب الاستقبال، بأن الخادم الذي حادثه وجالسه وشرب القهوة من يديه، لم يوجد يومًا إلا في مخيلته!

* بين نيرسيس وأوديب

رغم أن سارد (رائحة اللوز المرّ) لم يدّخر وسعًا لاقناع المتلقي بأن سيرته الأيروتيكية الفاقعة بوجه عام، وعلاقته الخاصة بسر ذكورته بوجه خاص، هي أعمق وأكثر تعقيدًا من أن تفسّر من منظور فرويدي -وهو ما صرح به نصًا في الرواية- إلا أن القراءة الناقدة المتمعنة في مضمر ومنطوق (رائحة اللوز المرّ) تؤكد أن الرواية برمتها، قد مثّلت مختبرًا تجريبيًا مضخّمًا لأطروحات فرويد بخصوص الكبت الجنسي، وقد اشتملت على معظم، إن لم يكن كل، عناصر النظرية الفرويدية؛ فهذا الهوس الجارف والغامض والمبهم وهذا الانشداد القسري لاختلاجات سر الذكورة يمثل العقل الباطن الجمعي المكبوت وقد تجسّد في رسّام يسير على قدمين. لكن الفارق بين هذا الرسام وسواه من الناس، أنه امتلك الجرأة في لحظة تمزق أخلاقي عنيف للبوح بما يخاف أو يخجل الآخرون من التصريح به، وهذا التعلّق بالرسم والانخراط فيه يمثل تجسيدًا لما سبق لفرويد أن أسهب في الحديث عنه، وأقصد به الفن الذي يتوسل به الفنان للتخفف من عصابه الجنسي، فهو وسيلته الأنجع للتطهّر والتوازن النفسي والتخلّص من الشعور بالذنب. وهذا الإسهاب في تعديد النساء اللواتي لم يصمدن أمام سحره وجاذبيته فأوقع بهن وجرّهن لمرسمه يؤكد لنا على نحو لا يدع مجالاً للشك، أن هذا الرسام مصاب بأعلى درجة من درجات الاستعراض وحب الذات أو (النرجسية المفرطة) كما يقول خبراء علم النفس، وهي نرجسية كامنة يمكن ردّها إلى افتقاره الحاد إلى الحب والاهتمام الكافي في سنوات الطفولة؛ فهو يتيم الأب ووحيد أمه المتعلمة والمثقفة والجميلة والرصينة جدًا في عواطفها تجاهه، إلى درجة أنها محضته أقصى ما يمكن لأم أن تمحض ابنها من دعم ومؤازرة، لكنها كانت بخيلة جدًا في مشاعرها الأمومية تجاهه؛ لم تحضنه ولم تقبله ولم تمدحه أو تذمه على سبيل المثال. وإذا نظرنا بعين الاعتبار الشديد لحقيقة أنه افتقر أيضًا لأي شكل من أشكال السلطة الأبوية، فإن ملابسات علاقته بأمه تجعل منه مرشّحًا نموذجيًا للإصابة بعقدة (أوديب)، رغم كل محاولاته المعلنة والمضمرة لنفي هذه التهمة عن نفسه، وإلى الحد الذي يمكننا القطع معه، بأن كل النساء اللواتي ارتبطن معه، قد امتلكت كل واحدة منهن، ملمحًا من ملامح أمه التي مثلت في لا وعيه العميق، المثل الأعلى للأنوثة. 

* مجتمع مهووس جنسيًا

ما يسترعي نظر الناقد والمحلل النفسي في (رائحة اللوز المرّ)، أن السارد قد ظل سادرًا في هذا الهوس حتى بعد أن تزوج من امرأة لا تقل مثالية عن أمّه، وهذا في حد ذاته كان يجب أن يضع حدًّا لمعاناته الساحقة. كما ظل سادرًا في هذا الهوس حتى بعد أن أصبح رسّامًا مشهورًا، وهذا في حد ذاته أيضًا كان يجب أن يحقق له التوازن النفسي المطلوب، لا بل لقد واصل هذا الهوس حتى بعد أن فقد السيطرة على الموازنة بين التزاماته الزوجية ومغامراته العاطفية في ضوء انكساره الشديد أمام إحدى طالباته، فأُحبط وقلق وتوتّر واكتأب إلى درجة اضطراره للابتعاد عن العمل والأصدقاء وضوضاء الحياة ومواجهة نفسه على نحو ضار أوصله حد توهم شخصية خيالية، بثّها كل ما يختلج في عقله ونفسه من أفكار وأحاسيس.

نخلص من هذا التحليل، إلى افتراض مؤداه، أن قاسم توفيق تعمّد تضخيم هذا الهوس الجنسي وأوصله حدّ الجنون، كي يوصل لقرّائه رسالة مفادها أن المجتمعات العربية، وبكل ما تعانيه من كبت جنسي وباطنية وازدواجية حضارية وثقافية، قد تجاوزت الحدود الطبيعية للتأزم الذي يمكن استقراؤه في صفحات المجتمعات الغربية، وأنها بلغت مرحلة الافتقار التام للسيطرة على عصابها الجنسي. وأخطر ما في هذه الرسالة يتمثل في أنها لا تتأسس على أيديولوجيا التوصيف المحايد لما يحدث، ولكنها تتأسس على أيديولوجيا القناعة التامة بفلسفة اللذة وجدارتها بالتصدّر في الحياة العامة، وهي قناعة لم يخل بتماسكها المضموني، ذلك التدفق العارم في السرد بضمير الأنا، والذي بدا متماهيًا إلى حد بعيد مع ضمير الراوي، ولم ينكسر إلا في الفصل الذي راح الراوي يوصّف لنا من خلاله، ملابسات تلك المباوحة التي جرت بين الرسام وخادم الفندق، لنستنتج تاليًا أنها لم تعد كونها تلخيصًا لانشطار مؤقت في شخصية السارد الذي نجح في تجريد شخصية ذهنية أخرى من ذاته، حرصًا على توازنه النفسي المؤقت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى