راسِل بانكس يكشف الجانب المعتم من بلاد العم سام

انطوان جوكي
راسِل بانكس هو أحد الكتّاب الأميركيين الذين لم تعد من حاجة إلى تقديمهم. نعرفه من رواياته ومجموعاته القصصية التي تشكّل منذ منتصف السبعينات مراجع لاستكشاف الجانب المعتم والبشع من بلده، وأيضاً من مواقفه السياسية الراديكالية التي تعكس جرأةً كبيرة ورؤية بصيرة نادرة.
وفعلاً، لا يتخفّى هذا العملاق خلف واجب التحفّظ، على خلاف العديد من مواطنيه الكتّاب، بل نجده يجاهر بميوله اليسارية ويسعى في مؤلّفاته إلى تصوير بؤس أميركا وعالمنا، مستعيناً بشخصيات هامشية، متمرّدة أو عادية، على أمل إيقاظ ضمير قارئه وإحداث تغييرٍ في الوضع القائم.
هذا ما يتجلى بقوة في روايته الخامسة، «انجراف قارّي» (1985) التي حصدت لدى صدورها جائزة «بوليتزر» العريقة ولم تفقد المواضيع العديدة المعالَجة فيها شيئاً من راهنيتها، وأبرزها العنصرية المتنامية بين الشعوب، انتشار الأسلحة، أزمة اللاجئين وعملية استغلالهم المخزية، العولمة الاقتصادية ونتائجها الرهيبة، كتنامي الفقر وعدم المساواة وارتهان الكثيرين للبنوك والمؤسسات المالية. وهذا ما يفسّر بالتأكيد قيام دار «أكت سود» الباريسية بإعادة نشر هذا العمل في ترجمة فرنسية جديدة خاض غمارها بيار فورلان.
«انجراف قارّي» هي قبل أي شيء رواية حول الإنسان الذي يواجه جدران حياته الخاصة ويحاول جاهداً تسلّقها وتجاوزها من أجل اكتشاف آفاقٍ أخرى، وإن كانت في ذلك مجازفة كبيرة في بقاء وضعه على حاله، أو حتى في تراجعه. هذا ما سيفعله الشاب الثلاثيني روبرت دوبوا الذي يعيش مع زوجته وطفلتيه في بلدة صغيرة في ولاية نيويورك، ويعمل سمكرياً بمعاش لا يسد الحاجات الأولية لعائلته. رجلٌ غير راضٍ طبعاً عن حياته ويشعر داخله بغليان رغباتٍ يصعب عليه تسميتها، فيقرر بين ليلة وضحاها التخلّي عن كل ما يملكه في هذه البلدة والتوجّه للاستقرار في ولاية فلوريدا حيث نجح شقيقه الأكبر في تشييد وضعٍ يُحسَد عليه… في الظاهر. وهذا ما ستفعله أيضاً الشابة القروية فانيز دورسينفيل بإقدامها على مغادرة العنف المنهجي والفقر والفوضى في بلدها هايتي للاستقرار في الولايات المتحدة، مستسلمةً لذلك الحلم الذي يراود الكثيرين مثلها في العالم.
لدى وصوله إلى فلوريدا، يضطر روبرت إلى العمل ستة أيام في الأسبوع في متجر كحول يملكه شقيقه، ويستنتج بسرعة أن وضعه، بدلاً من أن يتحسّن، قد تدهور، خصوصاً بعد قتله بمسدس سلّمه إياه شقيقه «زنجياً» حاول سرقته. وتعبر فانيز البحر مع طفلها وحفيدها كلود على متن قارب يملكه عبّارون لا ضمير لهم، وتتعرّض مراراً للاغتصاب على يد القبطان ومساعده كثمنٍ لرحلتها التي ستنتهي بها على جزيرة بعيدة عن شواطئ أميركا، قبل أن تبلغ فلوريدا.
وعلى رغم استحالة مقارنة حياة هاتين الشخصيتين، لكن الأمل الذي يغذّيه روبرت الأميركي في التحرر من واقعه اليومي البائس لا يبدو مغايراً في جوهره عن أمل فانيز الهايتية في الهروب من ماضيها المؤلم. أملٌ يصوّره بانكس في روايته كنتيجة لحركة طبيعية تقف أيضاً خلف حركة الصفائح التكتونية أو الهجرة الفصلية لبعض الحيوانات. حركةٌ لا علاج لها ويستعين الكاتب بها لتقديم رؤيتين للعالم لا تتضاربان، على رغم اختلاقهما الظاهر، ولمقابلة قدر شخصين لن تلبث رغباتهما أن تتصادم من دون أن تلتقي.
مقابلة مؤثّرة تشكّل الأساس الذي يرتفع عليه صرح هذه الرواية التي تستمد قيمتها أيضاً من تلك القدرة المدهشة التي يتمتع بانكس بها على صياغة تأملات فلسفية أو سيكولوجية داخل السرد. تأمّلات تبدو متواضعة عند الوهلة الأولى، لكن كم هي صائبة وعميقة حول الكائن البشري وقدره. ومن بين ما نستخلصه من هذه التأملات، فكرة أن الحلم بحياةٍ أفضل هو في الحقيقة يوتوبيا تقود إلى الفشل، وأحياناً إلى المأساة، ما أن تتواجه مع الواقع، وفكرة أن البشر الخاضعين بمعظمهم لـ «قانون الأجر الحديدي» يزداد قدرهم سوءاً ما أن يضيفوا عنفهم الخاص على عنف الطبيعة الأعمى.
وبعد كشفه تدريجياً استحالة منح معنى لقدر كلّ من روبرت وفانيز الذي لا تأثير له في سير عالمنا، نظراً إلى تشكيله مجرّد إحصائية ضائعة داخل بحرٍ من الأرقام اللاإنسانية، يخطّ بانكس في نهاية روايته صفحات رائعة يحتفي فيها بسلطة الأدب، كاشفاً من خلالها ضرورة اختلاطنا بحيوات خيالية.
وفقط في تسليطها الضوء على هذه السلطة المعطاة لمن ينعزل عن العالم للغوص في حيوات أخرى، تستحق هذه الرواية صفة رائعة أدبية. لكن أهميتها تكمن خصوصاً في تشكيلها «أوديسة» معاصرة وميتافيزيقية تسمح لصاحبها ببلورة صورة غير زمنية للوضع البشري المأساوي ورؤية مجرّدة من الأوهام لما يسمّى «الحلم الأميركي». حلمٌ يتحوّل بسرعة تحت أنظارنا إلى كابوس في بلدٍ ما زال يعاني من عنصرية تجاه ذوي البشرة السوداء، ولا تخفي ناطحات السحاب الغزيرة فيه ومعالم الترف الظاهرة بؤسَ عددٍ كبير من أبنائه ومن أولئك الذين يغامرون في المجيء للاستقرار فيه.
وفي هذا السياق، تشكّل «انجراف قارّي» رواية سياسية بامتياز، يبدو تشخيصها الدقيق لوضع أميركا وعالمنا صالحاً أكثر من أي وقتٍ مضى، على رغم مرور ثلاثة عقود على تأليفها. ولا شك في أن صيغة الحاضر التي اعتمدها بانكس لكتابتها تعزّز من وقع خطابها وراهنيته، من دون أن ننسى لغتها الآسرة في مرارتها والبسيطة في ظاهرها التي تسمح بمتابعة انحراف شخصياتها من أقرب مسافة ممكنة، وتساهم في تأجيج حالة تعاطفنا معها. لغةٌ مادّية قبل أي شيء، لكنها تنمّ عن كثافةٍ قلّة من الكّتاب قادرة على بلوغها.
مقطع من «انجراف قارّي»
ترجمة أ. ج. – أفسد كل شيء، أضاع كل شيء، بدّد كل شيء. كان يملك بيتاً وقارب صيد. كان يملك أثاث البيت، على تواضعه. كان لديه عمل ثابت وأمل في عمل إداري في نهاية المطاف. كانت لديه حياة، وبما أنه كان يتحكّم بها، كانت حياته الخاصة. ثم قايض الجزء الأكبر من هذه الحياة بحياةٍ واعدة كانت تمنحه غالباً الانطباع بأنها حياته أيضاً، لأنه كان لا يزال يتحكّم بجزءٍ منها. لكن في ما بعد، أقدم على مقايضة فائضة، فتخلّى عن تحكّمٍ آمن مقابل وعود، مستبدلاً في كل مرة ممتلكات ومكتسبات واقعية بأحلام، إلى أن وجد نفسه هذا المساء محاصراً فقط بوعود وأحلام واستيهامات غير قابلة للمقايضة.
بلغ النهاية بسرعة مفرطة، في سنّ الثلاثين، ولم يعد أمامه أي مكان للذهاب إليه. يمكنكم أن تقولوا ـ وستكونون على حق ـ إنه كان عليه أن لا يصغي إلى شقيقه إيدي، ثم إلى صديقه أفيري بونس، وأن لا يثق بهذين الرجلين، شقيقه وصديقه الأقرب اللذين، وإن كانت حياة كلّ منهما أكثر تعقيداً من حياته، لم يكونا أكثر تحكّما بها. لن يقول روبرت دوبوا لكم عكس ذلك، الآن، خلال هذا المساء، على متن سفينة «إينجيل بلو». لكنه يعرف أنه، وإن لم يلحق بشقيقه ثم بصديقه إلى فلوريدا، وتوجّه بدلاً من ذلك إلى أريزونا أو كاليفورنيا، حيث لا يعرف أحداً، لوجد نفسه مع ذلك في الوضع الحالي ذاته، أي في حياةٍ هي عبارة عن خليط لا قيمة له من المشاريع المجهَضة والطموحات المحبَطة والأحلام الفارغة، وبالتالي لعرف هذه النهاية التعيسة من دون أن يتمكن من تغيير أي شيء.
المسألة ليست مسألة سوء حظ، وبوب يعرف ذلك. الحياة ليست مزيجاً من القوى اللاعقلانية. ومع أنه ليس بعبقري، لكنه يعرف أيضاً أن المسألة ليست مسألة خُبلٍ، لأن هنالك الكثير من المغفّلين الذين يبلون بلاءً حسناً في الحياة. السبب هو الأحلام. خصوصاً الحلم بحياةٍ جديدة، بالبدء مجدداً من الصفر. كلما استبدلنا بهذا الحلم الحياةَ التي نعرفها، تلك التي تحددها لنا ولادتُنا وحوادثٌ وصُدَفٌ من الصبا، كلما فقدنا سلطتنا وتحكُّمنا بمصيرنا. بوب على يقين من ذلك الآن. لكنه سقط في مكانٍ بارد ومظلِم حيث الجدران عارية وزَلِقة، وكل المنافذ مغلقة. إنه وحيد، وعليه أن يعيش هنا، إن أراد الحياة. هكذا يفقد شخصٌ طيّب ما هو طيّب فيه.
(الحياة)