رحلة إلى الجزائر .. في رحاب مقهى معلقة في السماء / إدريس علوش ( كاتب من المغرب )

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص – 

السفر من المغرب إلى الجزائر عبر الطائرة شبيه تماما بجلوسك في مقهى لكنها مقهى معلقة في السماء-كما أخاله- تجوب الآفاق الرحبة لبلدين يجمعهما أكثر مما يفرق،وما إن تنهي من احتساء قهوتك وتصفح الجريدة حتى تجد نفسك على أرضية مطار هواري بومدين،لهذا الاعتبار بالذات أحب السفر إلى الجزائر التي زرتها مرات، ساعة وأربعون دقيقة على أكثر تقدير تجد نفسك في الجزائر العاصمة  وهو ما يعادل حسب تدبير الزمن وشطحات عقارب الساعة ضعف الوقت وأكثر لكي أصل من مدينتي إلى مدينة الدار البيضاء  حيث يوجد مطار محمد الخامس الدولي،حيث تقلع المقهى المعلقة في السماء.

هذه المرة كانت الزيارة لحضور فعاليات المهرجان الوطني للمسرح المحترف بالجزائر، وهو مهرجان قار ومنتظم  تحضره العديد من الفعاليات المسرحية  عربية وافريقية وغربية وعلى هامشه برنامج “الشعر في ضيافة المسرح”كما يحلو للكاتب عبد الرزاق بوكبة  أن يسميه وهو صاحب هذه الفكرة وفي كل دورة من دورات هذا المهرجان يُشرك العديد من المبدعين العرب شعراء وكتابا ونقادا وإعلاميين للتفاعل مع هذه  التظاهرة وفي هذه الدورة كان معنا الشاعر المصري المقيم في اسبانيا أحمد يمني والأديبة اللبنانية هيام يارد،والشاعرة التونسية راضية الشهيبي والكاتب الصحفي الفلسطيني  المقيم في قطر محمد هديب،فيما تغيب عن الحضور الشاعر الجزائري عمر أزراج المقيم بين الجزائر وبريطانية لأسباب لم تعرف إلى الآن.

فندق المرسى مقر إقامتنا  والذي يقع في منطقة سيدي فرج التي تقع غرب العاصمة الجزائرية وتبعد عنها بعشرين كيلومترا،وهي منطقة ذات أهمية تاريخية وسياحية في آن،تاريخية لأنها كانت المحطة التي دخل منها المستعمر الفرنسي حين احتل الجزائر سنة1830،وأكيد أنه خرج منها وهو الذي اعتقد أنه باق في الجزائر والى الأبد بفعل بطولات ثورة المليون ونصف شهيد التي  قادتها جبهة التحرير الوطني أيام حرب التحرير و الإنعتاق من النير الكولونيالي مسجلة بذلك وبمداد الشرف والكرامة والفخر والعزة  صفحات مجيدات في تاريخ الأمم والشعوب،  وسياحية لأنها تقع على بانوراما ساحلية لامتناهية  جذابة  على تماس مباشر مع  البحر ،بحر الأبيض المتوسط، وتنوع مناظره الطبيعية الخلابة،تضم سلسلة فنادق  سياحية مهمة.

غرفتي الأثيرة في فندق المرسى مفتوحة على البحر ومستحمة بأشعة الشمس التي تحضنها،شرفتها تتحول ليلا إلى أفق يلتف حوله الأصدقاء،سمر مفتوح حول كل القلق الذي يشدنا لهذه الأرض ،القلق الفلسفي والإنساني بالأساس  وحديث مسترسل عن المسرح والقصيدة والثقافة بكل ألوان أطيافها والسياسة التي  نُجْمِعُ على أنها تفسد الود بين الناس والأحبة والجيران وهي حالة المغرب والجزائر منذ حرب الرمال سنة 1963 أو قبلها بعقود  قليلة. ندماء كنا نشرب القهوة المستمدة من ضيعات تلمسان، “قهوة مزَّةً راووقها خاضلُ”.

الشاعر حرز الله بوزيد سيد المقام والمكان والذي تستحيل الجزائر دونه يهندس كعادته لتدبير شؤون الليل وقضاياه،وهو المؤمن لحد النخاع إن الليل مهنة الشعراء ولا اختلاف في شعراء التفعيلة و قصيدة النثر ،ومعه أنت لن تُدرك معنى البوصلة وكأنه يقول”الجزائر لي”  وهو القادم من تخوم سيدي خالد قرية بولاية بسكرة المعروفة بشعرائها الشعبيين ،فسلم أمرك للريح واستكن إلى ضوضاء العاصفة،عاصفة الضحك والمرح المشاغب، بوزيد هذا الطفل الذي لا يريد أن يكبر

وهب عمره  للشعر وانتعاش القصيدة وانتصر لقيم الجمال ،جمال المعنى والمبنى وإيقاع التفعلية لا يُعير كعادته اعتبارا للزمن ،وافتتن بالأمكنة رحالة يجوب آفاق المدن والشوارع والأزقة باحثا كعاداته عن صور جديدة للقصيدة.

في هذا الملتقى سأتعرف على الكاتب والمبدع عبد الرزاق بوكبة وهو فاعل ثقافي ينتمي للصحافة الثقافية الجزائرية والعربية على حد سواء بحضوره القوي والمنتج  والخلاق في أكثر من مجال  لهذه الأخيرة صحافة مكتوبة ومسموعة ومرئية  وصاحب برنامج معروف يحمل اسم “صدى الأقلام” ، والذي جمعتني به  أواصر صداقة  قوية على شبكة التواصل الاجتماعي باعتبارنا كائنين” فايسبوكيين” بامتياز، نظراً لحضورنا اللافت على مستوى هذه الواجهة وعلى مستوى مل نُراكمهُ يوميا على جداريات” الفايس بوك”.  لكن هذه المرة سنلتقي ونتواصل  بشكل مباشر،في اليوم الأول من وصولي للجزائر ،جاءني للفندق وأخذني على جولة استكشافية لميناء سيدي الفرج السياحي حيث توجد بعض”اليوخوت” الخاصة بالاستجمام في عمق البحر،وهناك كانت  مراكب الصيد التقليدي راسية تنتظر موعدها للانطلاق باحثة عن مصدر الرزق وسبل العيش،المكان على امتداده كان مليئا وآهلا  بالناس والمصطفين الذين تستهويهم زرق البحر  وشمس  بدايات الصيف ،عوائل مع أبنائهم  يطلقون العين للنظر والخطوات للمشي،وعشاق متشابكي الأيدي استسلموا لدفئ التماس وروح الرومانسية العالية في انتظار شمس على أطراف الأفول والمغيب.فيما انزوينا إنا وعبد الرزاق بوكبة نتفقد زوايا المكان بحثين عن كأس بحجم الدهشة منتظرين قدوم الصحفي الشاب يوسف بلعلوج الذي كان منشغلا بنشرة المهرجان اليومية والذي سرني التعرف عليه،وهو الملم بالشأن الثقافي الجزائري والعربي معا…      

الشعر في ضيافة المسرح،هو أحد فقرات المهرجان  الوطني للمسرح المحترف والتي ابتدعها الكاتب والمبدع عبد الرزاق بوكبة وفي كل فرصة يدعوا لها العديد من الفعاليات الإبداعية العربية،هي موضوع حضوري للمشاركة والإسهام في هذا المهرجان. كنا أربعة شعراء، الشاعرة والكاتبةهيام وارد من لبنان، الشاعر والمترجم أحمد يماني من مصر يقيم في اسبانيا ،و الشاعرة راضية الشهيبي من تونس ،كنت رابعهم وكان معنا دوما الكاتب والصحفي الفلسطيني الذي يقيم في الأردن ويشتغل في الدوحة محمد هديب، الأمسية الشعرية أقيمت بمكتبة سقراط التابعة ليومية الجزائر نيوز لصاحبها الروائي والمسرحي احميدة عياشي،وهي الأمسية التي احتفت بروح الشاعر أبي القاسم الشابي،شاعر الثورة التونسي ،قرأ الشعراء قصائدهم على ضوء شموع خافتة  ،فيما كان المتلقي الجزائري ينصت بشكل خلاق معبرا عن قدرته الهائلة في استيعاب الشعر وقضاياه صوراً ومتخيلاَ واستعاراتٍ وايقاعاً وموسيقى داخلية كما هو شان قصيدة النثر.

“شرفة الأطلسي” – على ما اذكر- هي القصيدة الأولى التي قرأتها على مسامع المتلقي الجزائري و التي وكان هذا المقطع مستهلها: 

أستند

على عيني

من هذا الذي لا يرى

هذا المحال

الذي يستحيل

في مفترق الطرق

غبارا

أو شبحا بلا طيف

ساعة اليقين

وجزرا تنأى -هكذا- عن الماء

وتلعن اليابسة.

البيع بالتوقيع أمام المسرح الوطني فكرة ملهمة للتواصل مع جمهور الشعر رغم قلته الهائلة كما يحلوا لأحد النقاد الأسبان أن ينعته،لكن بصراحة في الجزائر أدهشني إقبال الجمهور،المتلقي،والقارئ،والمهتم ،والمواكب  لفتنة الشعر وجَمْهرتِهِ،هكذا تجد نفسك أمام طاولة تتوسطها إصدارتك وكرسي يسعفك لتباشر توقيع أعمالك الإبداعية محاطا بهذا الجمهور الرائع،بمن فيهم شعراء جزائريين حضروا اذكر منهم الشاعرة لميس سعدي والشاعر احمد عبد الكريم..في دقائق معدودة كنت قد وقعت ما أتيت به من نسخ مجامعي الشعرية تاركين المكان ومتوجهين إلى مقهى “طانطانفيل “. 

 في المسرح الوطني الجزائري  والذي يقع في  الساحة “السكوار” الفسيحة وهو المسرح الذي أسسه المناضل والمبدع الأممي محمد بودية سنة 1963،والذي اغتالته  مخابرات الكيان الصهيوني “الموساد” في فرنسا  لارتباطه العضوي بالحراك الثوري الفلسطيني  في سبعينيات القرن الماضي والذي كانت تربطه بالعديد من المبدعين المغاربة صلة الانتماء والارتباط للفن والإبداع وقيم العدل والجمال والتي تذكر بعض الشهادات لمبدعين مغاربة انه عمل على استقطابهم ضمن خلايا ثورية كانت تعد العدة لضرب مصالح صهيونية في صميم العواصم الأوروبية ومنهم بعض عناصر مجموعة “ناس الغيوان” ، وهو المسرح الذي وطئت  خشبته العديد من علامات المسرح العربي والإفريقي  والأوروبي على حد سواء.

كانت تجرى الفعاليات الأساسية للمهرجان الوطني للمسرح المحترف التي امتدت من 24 مايو  إلى غاية 7 من يونيو2011، ليس في قاعات العروض داخل المسرح فحسب ،بل خارجه في الساحة المنفتحة  على  الآفاق الرحبة لفن الحلقة ومجلات التنشيط الحكواتي و الموسيقي  وبأربعة لغات هي الأمازيغية، والعربية، والإنجليزية والفرنسية، من تنشيط جزائريين، وأفارقة وأوروبيين. 

خلال المهرجان تم تقديم 14 عرضا مسرحيا يتنافس على جوائز الدورة ، وبمشاركة عشر دول أجنبية من فرنسا وإفريقيا الوسطى ٍو عشر دول عربية منها مصر وتونس،والعراق، والسودان، والأردن، والمغرب وفلسطين. وتكونت لجنة التحكيم في هذه الدورة من جمال دكار، جكاطي عيسى، منور أحمد، وليندة سلام من الجزائر، شذى سالم من االعراق، عبد الرحمن بن زيدان من المغرب، كمال العلاوي من تونس، سامح مهران من مصر و حسن حاسي كوياتي من بوركينافاسو. و عمل المهرجان على تكريم  كلاّ من الممثّلة السوريّة أميمة الطاهر،و الأردنية قمر الصفدي،و العراقية شذى سالم،و المغربي عبد المجيد فنيش، والسوداني يوسف عيدابي،و سعاد سبكي وليندة سلام من الجزائر.

  إلى جوار المسرح الوطني كانت مقهى “طانطانفيل ” التي يحج إليها المثقفين والمنشغلين بشأن المسرح وقضاياه ،والعديد من وجوه الصحافة الجزائرية،والعديد من المشاركين والمساهمين والمتتبعين لأشغال المهرجان الوطني للمسرح المحترف ،وهناك كنا نجتمع حول رائحة البن نحتسي القهوة  ونتجاذب إطراف الحديث حول قضايا الإبداع والفن والفكر والسياسة،التي طغى عليها جو الربيع العربي الغاضب الذي كان في مستهل حراكه.

هكذا تسربت الأيام من بين أيدينا كالرمل  مفعمة بالدلالات المدهشة والإشارات القوية التي تظل راسخة في الذهن و تبقى عميقة في الوجدان ،وجاء موعد الرحيل،والعودة إلى المقهى المعلقة في السماء وهي المسافة الفاصلة بين مطار هواري بومدين ومطار محمد الخامس إيابا والعكس دوما هو الصحيح.

.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى