رحيل اللبناني موسى طيبا «رائد التجريد» والمسكون بالهم الإنساني

الجسرة الثقافية الالكترونية –
#زهرة مرعي
رحل موسى طيبا في موطنه الثاني فرنسا في 12-8-2014 بهدوء ووداعة. قبل ثلاثة أسابيع من النهاية كان في لبنان، شارك في ندوة، رسم مشروعاً تطويرياً لمتحفه الدائم في قانا. هو مشروع أخّاذ قالها عبر الهاتف. أما غزة التي كانت في حينها تحت حمم النار الاسرائيلية تنهش اجساد أطفالها، فكانت في باله مشروعاً ثانياً جديداً لم يفصح عن أبعاده، إنما كان الألم يعتصره للهمجية غير المسبوقة على البشر وبخاصة الأطفال. هذا ليس بغريب عن موسى طيبا، فهو الفنان التجريدي الذي شكل الموضوع الإنساني نبعاً لكل ابداعاته الفنية، ويبرز من بين أعماله جداريتا قانا وغزة. هو دائماً مشغول بغياب العدالة وسيطرة القوة العسكرية في هذا العالم.
موسى طيبا الذي تربع على عرش الأكواريل بكل ليونة وتجلٍ، في ابتكار الخط واللون، وفي تجاور لون مع آخر، عشق الخربشة على الورق منذ كان على مقاعد الدراسة الإبتدائية في مدينة صور. كان أترابه يصغون لشرح المعلم، وهو كان يستجيب لإلحاحات الخطوط التي تسطرها يده على ورق الدفاتر المدرسية.
في السيرة الذاتية ولد موسى طيبا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939 في قرية تربيخا التي تعتبر من القرى اللبنانية السبع التي سلبها الصهاينة مع أرض فلسطين سنة 1948. في تلك القرية رافق والده إلى المروج والروابي الخضراء. ومع النكبة انتقل إلى قانا التي صارت جزءاً من نسيجه العاطفي والوجداني. بعد دراسته الثانوية انتسب إلى الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، حيث امضى اربع سنوات بإشراف أساتذة فرنسيين وأستاذ إيطالي. كما سافر إلى كل من روما ولندن لدراسة الفن حيث تعرّف إلى التيارات الفنية الكبرى. درّس تكنولوجيا الفنون في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية. أصابته الحرب الأهلية اللبنانية في محترفه ومنزله الأول الذي كان في كفرشيما، تركهما وأفتقد أثر بعض لوحاته ومنها «الرصيف اللامنتهي» وهي لوحة عبارة عن مجموعة من المربعات داخل كل منها شكل انساني بوضعية مختلفة. وهذه اللوحة تعتبر من اللوحات التي شكلت ولادته الفنية الأولى. في العام 1986 حط الرحال في فرنسا واختار مدينة شارتر لإقامته. نال الجنسية الفرنسية، ومنحته بلدية شارتر محترفاً خاصاً به. في العام 2002 وبعد تحرير الجنوب من الاحتلال افتتح في منزل والديه متحفاً دائماً هو متحف موسى طيبا. يضم هذا المحتف العديد من الجداريات منها جداريتا قانا وغزة، ومئات الأعمال الفنية الموزعة بين منحوتة، مجسم، ومائية. شارك في العديد من المعارض في شتى انحاء العالم، وآخر معارضه في بيروت كان بعنوان «50 عاماً من الأوهام» قبل سنتين وبمناسبة يوبيله الذهبي مع الفن. وفي سنة 2013 تمً تكريمه من قبل الحركة الثقافية في انطلياس.
هنا ثلاث شهادات في الراحل الفنان موسى طيبا:
الفنان والناقد عمران القيسي قال: عندما يمارس الفنان حياته الفنية، فإنه يمارس قدراً من الخلود الذي يحلم أن يجعله جزءاً من الحقائق القائمة في العالم. لم يكن موسى طيبا يشذ عن هذه القاعدة، بل على العكس، كان طفلاً يدرك بأن لغته التشكيلية والتلوينية، وخصوصاً بمادة الأكواريل، هي التي تدخله في عالم من الفرح الممزوج بذاكرة عبقرية. لذلك كان موسى طيبا يسيطر سيطرة جيدة على مسطحه التصويري وهو يرسم ما يتسنى له من اسقاطات الذاكرة. لم يكن فناناً تعبيرياً بقدر ما كان فناناً تجريدياً، لا يميل إلى الغنائية بل يميل إلى قدر من الترميز. لقد عشنا زمناً ونحن نتجاور قبل 40 عاماً في ضيعة قريبة من بيروت، حتى أكلت الحرب بيوتنا أنا وموسى طيبا، وعدنا لنرسم من جديد. لم ييأس موسى طيبا بل كان يبتسم دائماً. أذكر أحلامه الكبيرة وأذكر أحلامه الصغيرة. لم أستنكر يوماً عليه حلمه، بل كنت أرى فيه جزءاً من كينونة أتمنى أن تتلبس الجميع وتجعلهم جزءاً من هذا الحلم الكبير الذي هو حلم الفنان التشكيلي. موسى طيبا هاجر إلى فرنسا قلت له لماذا؟ قال لي لأنني بت أعشق الصمت. موسى طيبا عاش صامتاً أيضاً، ونذر بيته لكي يكون متحفاً في قانا. قانا هي الذاكرة التي انطبعت فيها المسيحية الأولى عندما حول المسيح الماء إلى طين لذلك حاول موسى طيبا تحويل بيته إلى متحف. في فرنسا حاول موسى طيبا أن يستعيد قانا، وفي قانا حاول أن يرسم هدوء فرنسا، لذلك هو رجل في الفضاء الكائن بين الصمت والتحول. موسى طيبا رحل اليوم، كلنا سنموت غداً، ولكن هذا الموت أعتبره حدثاً استثنائياً لأن موسى عاش حياة استثنائية.
عندما طلبت من الفنان فوزي بعلبكي شهادة برحيل زميله موسى طيبا شكل الخبر مفاجأة له وقال: تأثرت بهذا الخبر الحزين. في الشهر الماضي وقبل سفره الأخير إلى باريس التقيته في شارع الحمراء حيث كان مقهى الويمبي سابقاً. قبلني رحمه الله وطلب مني لوحة لمعرضه الدائم في قانا. وعدته ايجاباً بعد إنجازي للمعرض المزمع لي بعد حين. لم تكن المودة بيننا كبيرة جداً، لكنه كان أستاذي، أمازحه كما حين كنت طالباً لديه، فهو كان شديد الدماثة مع طلابه، يراعي خواطرهم، ويخفف من تشدده. على الصعيد الفني هو من الفنانين المعروفين في لبنان. له بصمته الخاصة والمميزة في الأكواريل. معظم الفنانين اللبنانيين من مجايليه كانوا يتساءلون بماذا يلون هذه الأكواريل التي ينجزها؟ لقد لمته مرة بخصوص المتحف في قانا والذي يضم مقتنيات من «هب ودب». كان رده أن اللوفر يضم اعمال من «هبّ ودبّ» لكنه يعرض الأساسي منها. هذا هو الأستاذ موسى الذي تأثرت لرحيله، وكانت بيننا مداعبات جميلة. رحمه الله.
قال الفنان شارل خوري بعدم معرفته الشخصية بالراحل موسى طيبا «لكني أعرف فنه». وأضاف: هو خسارة لأهل الفن والفكر وللبنان، فهو لعب دوراً كبيراً في عطاءاته الفنية. للأسف المبدعون العظماء يرحلون بالتدريج. أرى موسى طيبا من المجددين في الفن وخاصة في أعماله الورقية ـ الأكواريل. قدم جديداً بالقياس للسائد والمعروف في حينها. تمكن طيبا من منح الأكواريل بعداً ووهجاً آخر. هو إنسان مرهف ومُلَوِن بامتياز. لونيته جميلة جداً. اللافت في موسى طيبا ورغم تجربته في أوروِِبا أنه لم يتأثر كثيراً بالعالم الجديد الذي حط فيه، بل العكس هو أخذ معه نفساً من لبنان ومن الشرق وبخاصة ألوانه. الملونون في أوروبا لهم الوانهم الداكنة نظراً لمناخهم وبيئتهم. موسى طيبا تأثر ايجاباً بأوروبا، كما أعطى في أوروبا من بيئته الشرقية. واستفاد تقنياً من أوروبا. وهو عالج موضوعات من الجنوب اللبناني، من الريف ومن المجتمع اللبناني بشكل عام.
#القدس العربي