رحيل جوزيف أبو رزق.. «فيلسوف» الفن والجمال

الجسرة الثقافية الالكترونية
*احمد بزون
المصدر / السفير
آخر مرة التقيته في معرض أقامه للفنان الراحل ابن بلدته المتين، جورج خيرالله، منذ قرابة ثلاثة شهور، في جمعية الفنانين اللبنانيين، وكان هو صاحب الدعوة، قبلها كان اهتمامه كبيراً في تأسيس متحف تشكيلي في حمانا، جمع له أعمالاً من فنانين عديدين، ودعاني إلى الكتابة عنه. وبين الموعدين التقينا في معارض عدة. إذ لم يكن تقدمه في العمر ليعيقه عن الحركة والمتابعة، فكان شغفه في الفن يقوده إلى مشاهدة معظم المعارض التي تقام في الصالات اللبنانية، لا ليقدّم مقالة نقدية، إنما ليؤكد نظرياته في الفن التشكيلي اللبناني ويتحقق منها. كنت أراه يتجوّل في المعارض كنسمة، بكل لطفه ودماثة خلقه، يتحدث إلى الفنانين، كباراً وصغاراً، بكل غيرة على الفن اللبناني. ونادراً ما يعفيه فنان من استشارة أو رأي.
جميل أن جوزيف أبو رزق الثمانيني (مواليد المتين العام 1926) بقي حتى آخر لحظة في حياته بكامل عطائه، وبنشاطه المستمر، كتابة وتعليماً. وبقيت مهمته أمام عينيه، باحثاً في جماليات الفن، بل أستاذاً في فلسفة الجمال، في الجامعة اللبنانية وفي «ألبا»، وربما كان أوّل من علم فلسفة الجمال في لبنان، وقد أرفد تدريسه في هذا المجال بتأليف كتب لا سيما Esquisse d’une esthétique. وهو إذ ركز على الجمال، فإن الفلسفة عموماً كانت مجال اهتمامه، منذ نصحه بذلك أستاذه الفرنسي في مدرسة الحكمة، ثم كان لأستاذه المفكر كمال يوسف الحاج تأثير ربما في ذلك. لذا كان اهتمامه منصباً، إلى جانب الفنون، على هموم الإنسان، لا سيما المواطن اللبناني المسكون بالقلق، وعلى انعكاس الحروب على كيانه ونفسيته، باحثاً في سبل علاج تلك الحالة، مؤكداً أهمية إرساء أسس الدولة للوصول إلى الخلاص. وهذا ما ناقشه في كتابه «بحثاً عن قيم جديدة».
المتنوع
غاب أبو رزق بكل هالته الفكرية والفلسفية، بوجهه المشرق دائماً بالبسمة، بهمومه التي تبدأ بالشارع ولا تنتهي عند حدود الكوكب. غاب كبير نقاد الفن، أو مَن يطلق عليه البعض «فيلسوف الفن»، الباحث المتنوع الذي خاض في علوم كثيرة، شأنه شأن العديد من أبناء جيله. فإلى جانب الفلسفة، اهتمّ بعلم النفس والحقوق والتربية، إضافة إلى الفنون التي كانت أكثر إغراء له. وخاض غمار التعليم في مراحله المختلفة، ورأس مصلحة الشؤون الثقافية والفنون الجميلة في وزارة التربية، ومصلحة البحوث العلمية. ساهم في وضع المناهج الدراسية في الفلسفة، واهتمّ بإقامة المتاحف التي ذكرنا آخرها في حمانا، كما ساهم في تأسيس معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، وكان أستاذ فلسفة الجمال فيه، المادة التي استمرّ في تدريسها حتى آخر حياته في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة «ألبا».
وعندما يذكر اسم جوزيف ابو رزق أمام الفنانين الكبار، يذكرونه بالخير مؤسساً لـ»معرض الربيع» ومعرض الخريف اللذين أقامتهما وزارة التربية في عهده، ورعاهما سنوات عدة، ولعل اهتمامه بالفن منذ تلك الفترة، أي منذ الخمسينيات، ومتابعته الفنانين اللبنانيين في معارضهم ومحترفاتهم، جعله أكثر التصاقاً بالتشكيل اللبناني، مهتماً بنقد التجارب التي رافقها، ثم باحثاً في تاريخ الفن، وقد شارك في لجان تحكيم فنية عدة وفي تأليف كتاب «الفن التشكيلي اللبناني»، مع عمران القيسي وصالح بركات، برعاية مكتب اليونيسكو في بيروت.
لم يمنعه اهتمامه بالفن التشكيلي والجمال عن الخوض دائماً في الفلسفة العامة، وطرح آرائه في قضايا مختلفة، ففي رؤيته للوضع في لبنان، كان من أكثر المعترضين على الطائفية، مميزاً بين الدين والتعصب الديني، إذ رأى أن الثاني ينهض مع انهيار الأول. وكان يعتبر الدين وعياً ينتج الطمأنينة، لكن الإنسان يشوّهه ويحوّله إلى مجرد مفهوم اصطلاحي، فتحضر الطائفية، ويصبح سبباً في الاختلاف والفرقة لا الوحدة كما ينبغي أن يكون، وهو كان دائماً من الداعين إلى الوحدة الوطنية. واعتبر أن الطائفية في لبنان سبب في عدم الوصول إلى لبنان الغد.
تبسيط الأفكار
وكثيراً ما كان أبو رزق يكرر فكرة أن الفراغ الوجودي هو سبب في التأزم، وأن على الجميع أن يملأوا هذا الفراغ، وقد شدد كثيراً على هذه النقطة، معتبراً أن الفلاسفة والفنانين وكل المبدعين يبحثون عن ملء هذا الفارغ ببناء علاقة مع المتلقي أو الآخر، وهذا أمر مهم برأيه. على أن أفكاره الفلسفية وآراءه في الحياة والجمال ضمّنها كتبه، منذ تأليفه «بحثاً عن قيم جديدة» (1957) الذي سبق ذكره، مروراً بسواه من الكتب، لا سيما Le procès de la conscience، La feuille du Figuier ، Enquête d’un refuge.
أما بالنسبة إلى الفن التشكيلي اللبناني فهو من الذين يعتبرون بيروت محطة للحركات الفنية العالمية منذ القرن التاسع عشر، رغم أن بعض التيارات والمدارس الفنية تأخرت حتى وصلت إلى العاصمة اللبنانية. ذلك أن التغيرات التي حصلت في العالم وولّدت التغيير على مستوى الفنون لم توازِها تغيّرات مماثلة في لبنان. لكنه يؤكد أن الفنانين بادروا إلى اللحاق بالركب الفني الغربي بمبادرات فردية، فاللبناني برأيه منفتح دائماً على التجديد والتغيير.
كثيراً ما اعتز أبو رزق بلبنانيته ووطنيته، وقدم أفكاره وآراءه بشفافية عالية تشبه شفافيته في الحياة، وفي مشاركاته في الندوات والمناسبات كان كذلك، مع ميل دائم إلى أن يكون كلامه شيقاً، فهو لم يغرق مرة سامعه بتعقيد فلسفي، بل يعتمد أسلوب التبسيط والتقرب من سامعه، وإذا تكلم معك همس في أذنك حتى لا يسبب ضجيجاً.
رحيل أبو رزق بهدوء أيضاً، رحل كبير مؤرخي التشكيل اللبناني، ورائد فلسفة الجمال، الناقد الذي يحترمه كل فنان عرفه وطاوله رأيه.