رحيل سيرجيو سولّيما.. سينما «وسترن سباغيتي»

الجسرة الثقافية الالكترونية
*نديم جرجورة
يرحل الإيطالي سيرجيو سولّيما، فيُطرح سؤال أفلام «وسترن سباغيتي» مجدّداً. السينمائيّ المُشارك في صناعة هذا النوع السينمائيّ في عصره الذهبي، يُشكّل رحيله لحظة تأمّل في أحوال سينما لم تعد موجودة. حتى أفلام «وسترن» الأميركية تبدو منقرضة، إذ لم يبقَ منها سوى ذكريات جميلة عن زمن ينغلق على عناوين تحتلّ مساحات واسعة في الذاكرة البصرية. سيرجيو سولّيما أحد 3 مخرجين إيطاليين يحملون الاسم الأول نفسه، ويعملون معاً في تفعيل نمط سينمائيّ مرتبط بمحاكاة ساخرة لأفلام رعاة البقر في الغرب الأميركي. أبرز هؤلاء وأشهرهم سيرجيو ليوني (1929 ـ 1989)، مخرج «من أجل حفنة من الدولارات» (1964) و «الطيّب، القبيح والشرير» (1966) و «حدث ذات مرة في الغرب» (1968)، من دون أدنى تقليل من أهمية الاشتغالات السينمائية لسيرجيو سولّيما وسيرجيو كوربوتشي (1927 ـ 1990)، الذي يُقدّم للسينما أفلاماً عديدة، منها «دجانغو» (1966).
صناعة نوع
أهي مجرّد صدفة بحتة، أم أن للقدر لعبة يتمتّع بممارستها في كواليس الحياة؟
ذلك أن هؤلاء الثلاثة يولدون في روما التي يرحلون فيها أيضاً. يولدون في عشرينيات القرن الـ 20، في حين أن سيرجيو سولّيما (1921 ـ 2015) يعاند الموت ـ بعد رحيل صديقيه الاثنين في عامين متلاحقين ـ لسنين مديدة، مع أنه يعتزل العمل نهائياً بعد 8 أعوام على غياب كوربوتشي. كأنه، بهذا، يحاول أن يُرمِّم ذاكرة شخصية في عزلته المديدة. أو كأنه يريد حماية إرث سينمائي من الذوبان، فيفشل في ذلك لشدّة انغماس السينما في متاهات حياتية وتقنية ووجودية مختلفة تماماً عن تاريخ يصنعه برفقة اثنين من سينمائيي الملذّات المبسّطة والهادئة.
تولد أفلام «وسترن سباغيتي» من رغبة في ابتكار شكل إيطالي لرعاة البقر مغاير عن إبداع هوليوود. هذا النوع يُراد له أن يكون مرآة بصرية لمعنى العدالة والبطولة والشهامة. تحديد نقدي له يقول إن «هذا النوع الأقلّ أهمية» من الـ «وسترن» مرتبطٌ بالسخرية من السينما الأميركية. في مطلع ستينيات القرن المنصرم، يبدو الـ «وسترن» سائراً إلى زوال، قبل أن يمنحه مخرجون عديدون، أمثال سيرجيو ليوني، تجديداً يستعيد شبابه. وإذ يشبه الـ «وسترن» التقليدي أفلام حركة تدور أحداثها في نهاية القرن الـ 19 أو في بداية القرن الـ 20 في الغرب الأميركي، فإن الـ «وسترن سباغيتي» لا يدافع عن القيم التقليدية ولا يُمجِّدها، تلك القيم التي تؤسِّس الأمة الأميركية. لا يتماهى بأساطير الغرب، ولا يحتفل بغزوه. كما أنه لا يسعى إلى نُصرة النظام والقانون ضد الشر والفوضى. فالنظام يستتبّ بفضل المسدس، والقانون الذي يعمّ هذه المدينة أو تلك هو «قانون القوة». أما الدوافع المُحرِّكة لهذه السينما، فمتمثّلة بـ 5 نقاط أساسية: تصفية حسابات (بسبب ديون غير مُسدَّدة أو ثأر شخصي)، العنف المُمَارس على المرأة، الحاجة إلى المال (فقر، مجاعة)، إمكانية العثور على «مال مدفون» في مكان ما (مصرف، قطار، إلخ.)، والجنس.
يأتي سيرجيو سولّيما إلى السينما من الصحافة والنقد السينمائي. في بداية ستينيات القرن الفائت، يكتب سيناريوهات عديدة لمخرجين مختلفين، أمثال دومينيكو باوليلاّ ولويجي كابووانو وجيانفرانكو باروليني. في العام 1962، يُخرج فيلم «قصص حبّ صعبة»، المؤلّف من مجموعة اسكتشات. في ذروة اشتغال سيرجيو ليوني وامتداد شهرته دولياً في النصف الأول من الستينيات نفسها، يُطلّ سولّيما بأول فيلم «وسترن سباغيتي» له بعنوان «كولورادو» (1966)، مع الثنائي لي فان كليف وتوماس ميليان. يرتكز السيناريو (يكتبه سولّيما بالتعاون مع سيرجيو دوناتي) على حكاية تمزج في طياتها بعض النقاط الأساسية المطلوبة في هذا النوع السينمائي: كولورادو اسم «شريف» (قائد شرطة في مدن الغرب الأميركي) عنيد ومتصلّب وقاس، يبني شهرته على مطاردة مجرمين وقتلهم. لديه طموح سياسي، لكنّه يُكلّف بمهمة أخيرة: ملاحقة فلاّح مكسيكي بتهمة اغتصاب ابنة ملاّك ذي نفوذ قوي، وإلقاء القبض عليه. المطاردة، وإن تبدو محافظة على سلوك عادي في اعتماد الحركة والتشويق، لا تخلو من أسئلة جمالية ودرامية مرتبطة ببراعة التصوير في التقاط حالات وانفعالات، وبقدرة النص على مناقشة مبطّنة للسياسي والأخلاقي معاً، من دون تناسي أولويـة المطاردة ومفاعيلها المتنوّعة.
تنويع سينمائي
تتالى الأفلام. الـ «وسترن سباغيتي» لن يكون العنوان الوحيد لنتاجاته. الجاسوسية حاضرة في فيلمين اثنين على الأقلّ، بطلهما العميل 3S3: «جواز سفر إلى الجحيم» (1965)، و «مجزرة في وضح النهار» (1966). تعاونه مع توماس ميليان يؤدّي بهما إلى فيلمين آخرين يُشكّلان، مع «كولورادو»، الأفلام الـ 3 المنضوية في إطار «أفلام رعاة البقر» بنسختها الإيطالية: «المواجهة الأخيرة» (1967) وSaludos Hombre (1968). في الأول، سردٌ لتحوّل ذاتي داخلي تعيشه الشخصية الرئيسة، المكتشفة جماليات العيش خارج القانون، والمتمتّعة بفوائد التمرّد على ثوابت تُقيّد المرء في أطر ضيّقة. في الثاني، هناك كنز مخبّأ في مكان سرّي لا يعرفه إلاّ شخص واحد، وهناك بحث ومطاردة وصدامات تسبق العثور عليه.
«مدينة العنف» (1970) يأخذ سيرجيو سولّيما إلى رحاب سينمائي مغاير. الانتقام فعلٌ يُراد له تنفيس غضب أو توتر. القاتل المحترف يجد نفسه أسير مطاردة يطمح القائمون بها إلى تصفيته والتخلّص منه عبرها. لكنه يُتقن الخلاص، ويبدأ رحلة الانتقام. الغرق في الدم والعنف ملاذٌ، والمطاردة منتقلة من سخرية رعاة البقر إلى عوالم إنسانية محطّمة ومرتبكة. «المطاردة الشرسة» (1973) يغوص في لعبة أكبر من قدرة موظّف (مدير سجن) على احتمال تداعياتها. الضغط عليه (اختطاف زوجته) لإطلاق سراح سجين يفتح أبواب الجحيم على معاني العيش في دائرة الخراب اليومي. أما «ساندوكان»، المسلسل التلفزيوني المؤلّف من 6 حلقات في موسم واحد فقط (55 د. كل حلقة، بدءاً من 6 نيسان 1976)، فيروي مغامرات القرصان ساندوكان في القرن الـ 19 في آسيا.
رحيلٌ يأتي في غمرة النسيان المطلق لنوع سينمائيّ يحفر عميقاً في الوجدان، لكنه يبقى أسير ماضٍ مشبع بمغامرة البحث في المحاكاة الساخرة لرعاة البقر الهوليووديين.
المصدر: السفير