رحيل مريم فخر الدين.. الممثلة الرومنسية ذات اللسان اللاذع

الجسرة الثقافية الالكترونية
*نديم جرجورة
بين أدوار بطولة أولى ونزق حياتيّ لم يقف حائلاً دون انتقادات عنيفة موجّهة لزملاء أو مسائل، وبين انهماك في تأكيد رومنسية سينمائية عربية شفّافة وهادئة، واختبارات درامية ذاهبة بها إلى أقصى فعل التمثيل، عاشت الفنانة المصرية مريم فخر الدين واحداً وثمانين عاماً، انتهت أمس الاثنين إثر مشاكل صحّية متنوّعة. لاذعة هي. قاسية بأحكامها. لا تخشى شيئاً أو أحداً. ناشئة في عائلة متشرّبة ثنائيات «ثقافية» (إسلام ومسيحية، مصر والمجر، أفريقيا وأوروبا، العربية والألمانية، حرفية مهنية ونجومية باكرة). الشقيقة الكبرى للممثل الراحل يوسف فخر الدين (1935 ـ 2002) عارفةٌ نماذج مختلفة من الأدوار، وحالات متعدّدة من الحياة المصرية والعربية العامة. زمنها السينمائي المتألّق مرتبط بسطوة السينما الرومنسية المصرية في العالم العربي. ألقابٌ عديدة سيقت لممثلات من جيلها، فإذا بها تنال أحدها: «حسناء الشاشة». لكن «حسناء الشاشة» هذه تخفي في ذاتها روحاً عصيّة على التنازل والفهم ربما، وكبرياء تدفعها إلى التخوم القصوى للصراحة اللاذعة.
البطولة الأولى
كأنها مولودة للتمثيل، وإن تغلّب عليها نوع واحد. جمالها فاعلٌ في تحوّل حياتها منذ شبابها الأول. جمالها نفسه مدخلٌ إلى السينما عبر غلاف مجلة. تقول الحكاية إن مريم فخر الدين احتلّت غلاف المجلة الفرنسية «إيماج»، ما أفضى إلى فتح أبواب السينما أمامها. لا أحد يعرف «سرّ» انخراطها في الأدوار الأولى منذ البداية. ليس الجمال فقط. هناك رأي نقدي مفاده وقوع الممثلة في فخّ التشابه الكبير في تأديتها الغالبية الساحقة من الشخصيات: ابتسامتها أو حزنها، فرحها أو انقباض القلب وملامحه، رغبتها في الحبّ وانكسارها أمام قسوته. أميل إلى القول إنها لم تتغيّر كثيراً، وإن في مقابل تبدّل الأنواع. البطولة الأولى لها نعمة تُطالبها بدفع ثمن كبير لقاء الاستمرار، فإذا بها تواجه بارعات أخريات في اقتناص أجمل الأدوار، وأحلى الشخصيات. ليس سهلاً تمثيلٌ يأخذ صانعه إلى عشرات الأعمال التي وضعتها في إطار واحد لم تخرج منه إلاّ قليلاً، من دون مطالبتها بالاجتهاد في اختراع كل جديد ممكن. خمسينيات السينما المصرية وستينياتها مثلاً ملعبٌ لها لأداء دور ساحرة جميلة تستقطب منتجين ومخرجين وممثلين، فتجد نفسها في مواجهة يومية مع ممثلات يُتقنّ فنّ التنويع التمثيلي، كهند رستم ونادية لطفي وفاتن حمامة مثلاً.
إنه زمن انقلابات وتحوّلات. تحاول مصر الخروج من الملكية إلى نظام جمهوري مرتبك عبر ثورة بيضاء. تحاول السينما أن تكتسب من الغرب ما يُعين على إيجاد مرادفات مصرية لما يحدث فيه. تحاول الصناعة السينمائية أن تُطوّر لغتها، وأن تتفرّد في إنتاج ذاك المزيج الرائع بين الرومنسية والغناء. مريم فخر الدين جزءٌ من هذا. وقوفها أمام كاميرا كبار لم يمنعها من الوقوف أمام آخرين أيضاً. لم تشأ سينما تلك الفترة البقاء في مألوف واحد، فتنوّعت عطاياها ونماذجها. هناك أدب مُشارك في الصناعة. هناك أدباء مساهمون في السينما، يُقدّمون روايات، أو يُساهمون في كتابة سيناريوهات. مريم فخر الدين مُعاصرة هذا كلّه، وما بعده. لم تكن مختلفة عن أخريات، سواء في حياتها الخاصّة أو في اشتغالاتها السينمائية. أربع زيجات وولدان. صعود رائع وسقوط عادي، كي لا أقول مدوّياً أحياناً. مع هذا، ظلّت امرأة عنيدة في اختراقها المعمول به غالباً. مُدركة هي منذ طفولتها أن عدم الخنوع قدرٌ لها. أب مسلم يريدها فتاة شرقية، وأم مجرية تكافح هذا لرغبتها في أن تكون ابنتها متحرّرة ومنفتحة. ترتدي المايو وتُقبّل الممثلين، مع أن والدها مانعٌ إياها القيام بهذا. لاحقاً، باتت مريم فخر الدين إحدى علامات التمرّد والعيش إلى أقصى المستحيل.
«سيدة الشاشة العربية»
لسان لاذع نابعٌ من فعل المواجهة ربما. مثلٌ أول: رافضةٌ هي منح فاتن حمامة لقب «سيدة الشاشة العربية»، لاعتبارها اللقب يليق بها أكثر. لعل شيخوختها سببٌ لتفوّهها بكلام قاس عن زملاء ومسائل. مثلٌ ثان: لم تتردّد عن وصف رائحة فم عبد الحليم حافظ (1929 ـ 1979) بالبشعة، بطريقة لا تقلّ بشاعة، هو المُصاب بالبلهارسيا، منتقدة في الوقت نفسه مشاركتها إياه البطولة السينمائية مرّتين اثنتين، الأولى في «حكاية حبّ» (1959) لحلمي حليم، والثانية في «البنات والصيف» (1960) للمخرجين الثلاثة عز الدين ذو الفقار وصلاح أبو سيف وفطين عبد الوهاب. مثلٌ ثالث: مهاجمة الطائفة الدرزية في برنامج «خليك بالبيت» مع زاهي وهبي بطريقــة لا تليق بها كسيدة وفنانة وامرأة. شيخوختها تلك تُشبه، شكلاً، المآل الذي بلغته كلوديا كاردينالي: تجعّد في الجسد. لكن هذا التجــعّد لم يمنــع الممثلتين من تقديم أدوار سينــمائية قليلة، وهما في لحظــة انعدام الجمال الشكليّ.
كثيرة هي أفلامها. عديدة هي مواقفها القاسية. تاريخها جزءٌ من لعبة الفن والسياسة والأمن والأعمال. آخر أيامها مرضٌ وعزلة وانفضاض عن مهنة استنزفتها طويلاً. غريبٌ أمر فنانين كهؤلاء: مستقبلهم رهن ماضيهم، لا أكثر.