روافد الصورة الشعرية في «طائر النار» لأحمد المباركي: من الرومنطقية والنص الديني الى المنافرة

الجسرة الثقافية الالكترونية –

رياض خليف

اختار احمد المباركي ولوج عالم الشعر من بوابة البدايات ألا وهي بوابة الخليل فجاء شعره وفيا للقدامة ملتزما بوقعها وقوافيها ملوحا بمعاجمها وفنونها نابضا بقلب الشاعر الشغوف بواقعه والغيور على الحرف…ولعل مجموعته طائر النار الصادرة عن دار هديل للنشر بصفاقس تمثل فرصة أخرى للاطلاع على تجربته والتفاعل مع هواجسه…
وقد ضمت مجموعة من القصائد التي تعددت أغراضها فكان الاحتفاء بالموطن وتحديدا بتوزر والجريد عامة:
«يا توزر الشِّعر كم أسرجت راحلـة
تبختـــر الفــن فيهــا كالعـــراجـيـــن
وكم نسجتِ عِذاب القول في زمـنِ
تحنظـــل الحـــرف فيــه في الدّواوين
تكلّــس الحــبّ فـي قمصان نخبتـنــا
وأنـت دوما بفيض الوجد تسقيـنــي
يــا توزر النّخل يا حِصْنا لعـاربــــــة
يــا من رُفِعْتِ عليهم دون تسكـيـــن «
ولم ينس الشاعر الهموم العربية المتنوعة فكان التفجع والتألم والغضب فقريحته الشعرية لم تصبر عن الوجع العربي فطافت بمواضعه ومدنه فجاءت بعض المقاطع تنبض بهذا الألم العربي :
يا طائــر النّــار … فـي بغداد مرتشَـف
عـرّج على دجلة تسبــي بلابلــهــــا
يــا طائــر النّــار فـي لبنــان مأســـدة
تَزآرهــا مــا خبــا ترمــي جنــادلهــــا
علــى الكنانــة عــرّج دونـمـا وجــل
عــلّ السّمــاء تصــافي الآن سائلهــــا
وامْــرُرْ علــى سبــإ في أنجـــم صُـــدُقٍ
صنعاء حور-ضحى- تذري جدائلها
وسابق الشمس فـي عيــن لهــا حمــأ
حتـــى تؤلّـــف أعلاهـــا وسافلـهـــــا
وفــي الجليــل هناكـم كهــف معتكــف
ســـارت سنابلــهـــا تقـفــو منازلــهــا
وسـر إلـى رَفــحٍ والقلـب مضطـــرم
إذ عندهـــا شهُــب نــارت خمائلهــا
كما ضم العمل قصائد وجدانية مختلفة تكشف عالم الشاعر ومواقفه وصراعاته…
والمتأمل في هذه التجربة يلحظ أن أحمد المباركي يغوض في رحلة شعرية مؤمنة بالأمس ووفية له ومازال مصرا على الوفاء للخليل وعلى استعادة المناخات الشعرية التأسيسية وعلى صورة الشاعر الأصلية المترسخة في الأذهان العربية ذلك الشاعر المتفاعل مع راهنه لذلك طغت على القصائد نزعة التلظي والتألم والتذمر من الواقع…ولعل هذه الخصائص تتبين لكل دارس في مختلف القصائد وهو شأن قصيدة «الشاعر والغاوون»التي تم اختيارها لتقصي خصائص الكتابة الشعرية عنده وتحديدا المناخات الشعرية التي تمثل روافدا لهذه التجربة…وقد
جاءت هذه القصيدة على بحر البسيط وهي من القصائد التي وضعها الشاعر وسط المجموعة واتخذت موضوع صراع الشاعر مع محيطه وهو الموضوع التي لا تخلو منه المدونة الشعرية العربية فعلاقة الشعراء بالآخرين يسودها جانب من القلق والتوتر اذ ظل الشاعر العربي باحثا عن مكانته ومدافعا عن خصوصياته وأحاسيسه وما استعادة هذا الموضوع في هذه المرحلة إلا نتاجا لما يراود الشعراء والمثقفين من قلق وألم ولعلي أقتطف من تقديم الأستاذ محمد حاتم بن طاهر لهذا العمل قوله عن هذه القصيدة:
«حقا انتهى بك الرّحيل إلى «الشّاعر والغاوون» فنزّهت الشاعر عن الأكاذيب وبدّدت خيوطا قد أحيكت حوله فكان الشّاعر كما رسمته نبيّا مجهولا لا تعرفه إلاّ العقول النيرة ولا يدركه إلاّ من به ولع، نعم أنت شيّدت صرحه وناديت بإعلاء مقامه والرّفع من شأنه فكان الشاعر طائرا ناريّا أشبه ما يكون بالعنقاء أو طائر الخرافات اليونانيّة أتى من بعيد ليجيب عن أسئلة الحيارى لكي يبذر الأمل فينا, أتى لكي يخلّص البشريّة من ترّهات المعتوهين ويقضي على مسيلمة الكذّاب. ويقتل المسيح الدجّال الذّي ما فتئ يغرينا ويجذبنا إلى غيابات جبّه الحقير ويقتل فينا الضّمير، «
والمتأمل في مناخات هذه القصيدة وصورها الشعرية ومعاجمها يستطيع تبين ثلاثة مناخات بارزة تتداخل لتشكل القصيدة وتنسجها

المناخات الرومنطيقية:

لم يقطع الشاعر مع التجربة الرومنطيقية ففي مجمل شعره نجد حضورا للطبيعة واستعادة للنفس الرومنطيقي و نهل من الطبيعة وتوظيف لها ونذكر على سبيل المثال مقطعا من قصيدته التي صدر بها هذه المجموعة الشعرية
«هـــذا رُضابــك تسنيـــم يغذّينــــي
يا تــوزر الحســن يا سحر البساتينِ
وهِمــت فـي شفــة تسبـي قرنفلــة
تغازل العين بالأشـواق تكــوينـــي «
ولا تغيب التجربة الرومنطيقية عن هذه القصيدة التي ندرسها حيث ينهل الشاعر من المعجم الطبيعي ناسجا على منوال الرومنطقيين لذلك نجد في شعره صدى لرموزهم وآهاتهم وتراكيبهم حيث الصور الشعرية التي تحبك وتستمد من الطبيعة الغناء ومناخاتها فتحضر المفردات التي تحيل على الطبيعة ناسجة الصور الشعرية وربما صارت جوهر الكتابة الشعرية مادام الخطاب موجها إلى شاعر:
«وانسج طيورك والأغصان راقصة»
طالما كان رقص الطبيعة بمختلف عناصرها راسما لصورة شعرية ولطالما كان الترقيص حركة فنية يمارسها الشاعر على الأشياء ليثري بها صوره ولطالما التقط الشعراء الرومنطقيين من الطبيعة مظاهرالشدو والغناء وأصبغوا على الطبيعة صبغة احتفالية فنجد المباركي وقد رقص الأغصان واستدعى هذه الصورة الشادية:
«صوتـــك الشّــادي «
وهاهو المباركي مازال رغم السنوات حالما بالفجر منتظرا مولده على غرار الرومنطقيين الذين كان الفجر في شعرهم حلما ورمزا
«فيـولــد الفجــر مـــن أشجــار أفـئـــــدة»
فثمة حس رومنطيقي عند أحمد المباركي يزاحم صحراوية المكان وقتامة الواقع…

المناخات الدينية

لا تخلو تجربة احمد المباركي من تأثير النص القرأني حيث نسجل حضور العديد من العبارات التي تحيل عليه ولعل هذه القصيدة تضم أمثلة لهذا التوجه فالعنوان «الشعراء والغاوون «يحيل على أية قرآنية معروفة وهي»…والشعراء يتبعهم الغاوون»ولكن الشاعر يجعل الشاعر في حالة تصادم مع الغاوين ويجعله عرضة لغيهم –وهذه اللفظة أيضا تستمد معنى خاص وهام بسبب استعمالها في القران الكريم…
وتحضر في هذه القصيدة عدة مظاهر لتوظيف النص ألقراني ومن بينها استعادة قصة يوسف مع إخوته:
«وأهبـــطـــوك بجـــبّ ليــلـــه شــجــــن
فاصّاعدت شمسك الهيجى كأنفاس
وكنــت يوســـف فــي حزم وفـي أرج
ينيــر بـــدرك فــي غيمــات أنحـــــــاس
وكنــت تســري بطــور الطّهر منتعــلا
نعليْ صفاء بـوادي القــدس والبــاس»

كما يوظف الشاعر ماورد في سورة مريم فيستدعي بعض مفرداتها
فاهزز جذوعك تُسْقِطها –هنا- «رطبــا
والثــم جراحــك ســرْ فـي غير إيجاس»
كما يوظف الشاعر شخصية «ابرهة «وفيله وجيشه والطير الأبابيل:
أطلـــق بــلابلـهــا فــي وجــه «أبرهــة»
واعصــف بجيشــه: من فيل وحـرّاس «
3مناخات المنافرة
اللافت أيضا في هذه القصيدة حضور معجم الحرب وهو المعجم الذي له صلة تاريخية بالشعر العربي القديم الذي كان حافلا بالحروب والمعارك وقد وجد الشاعر في سجلات هذا المعجم ما يعبر به عما يخالجه من أحاسيس لذلك نجد في القصيدة مفردات ذات صلة بالحرب
(سيـوف الشّعــر –نيران ملحمة-الثم جراحك-تسربلت-البطشة الكبرى-أطلق-اعصف بجيشه-زلزل الارض-فيل وحراس)
إن استعادة المشهد الحربي تحيل على الشعر العربي القديم وعلى الشاعر المقاتل بالسيف والمفتخربنفسه وقبيلته وفرسانها وخيلها لكن الشاعر أحمد المباركي يتخلى عن السيف ويعوضه بالقلم والحرب فالكتابة عنده هي محاربة.فالشاعر محارب بشعره وحروفه:
مــن وقــع حرفــك أنطقهــا كأجــراس
يــا من رفعت سيـوف الشّعــر مفتخــرا
أما القصائد فتصبح سلاحا وتعوض الخيول وغيرها من الأسلحة:
هــي القصائـــد تســـري دونـما وجل
وتبطــش البطشــة الكبــرى بأنــفــاس
أطلـــق بــلابلـهــا فــي وجــه «أبرهــة»
واعصــف بجيشــه: من فيل وحـرّاس
ولعل حضور هذا المعجم وهذه الصور يدفع بنا نحو بنية المنافرة التي تقوم عليها القصيدة …هي منافرة بين الشاعر والغاوين وبين المخاطب وضمير الجمع الغائب «هم»…فثمة في هذه القصيدة عدو ما …ثمة عدو يمارس البطش والضيم…فالشاعر قلب الشكوى إلى تحدي وتحريض متواصل للمخاطب الذي هو الشاعر بدوره…فيذكره بالعذابات والممارسات وما تعرض له:
وحمّلـــوك مثاقيـــلا سمـــت سحبـــا
وفتّتــوا صوتـــك الشّــادي بـمهـراس
وجالســـوا دونـــك الأغــوال ناعبــــة
وقـــدّموهـــا كنــفْـخـــات بـــأعـــراس
وحنّطــوا روحــك الحــرّى بلا كفـــن
وعـــوّضـــوك بخـــفّـــاش ونســنــــاس
ويحرضه على الصمود والتحدي ورد الضيم:
ســرّح سعـيــرك فـي ثلــج وفـي بـــرد
تُثـلــجْ صــدورا وتـملأهـا بأعـــــراس
إن احمد المباركي يستعيد صورة ما من صور الشاعر العربي وهي صورة الشاعر الذي يواجه ويحول حياته إلى معارك مجد…أنها صورة الشاعر في قلب المعركة …

خاتمة

إن الشاعر يجدد في هذه القصيدة وفي هذا العمل تأكيده على تمسكه بالقدامة الشعرية وإيمانه بالشعرية العربية الأصيلة وهو يكتب نصا شعريا يمزج فيه بين مناخات الشعر العربي القديم القائم على الجانب القيمي والذي لا يخلو من تمسك بالقيم العربية وبين مناخات الرومنطيقيين الحالمة ليكون نصه متمسكا بالراهن ومحتفيا بالثقافة العربية الإسلامية التي تتجسد في النصوص الشعرية القديمة وفي النص القراني…
أنها تجربة شعرية أخرى يخطها الشاعر أحمد المباركي القادم إلى ساحة الشعر من أرض أبي القاسم الشابي وما من شك أن دواوينه الشعرية تحمل الكثير مما يستحق التوقف عنده استمتاعا بالشعر ودراسة له…
القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى