روايات مراد البجاوي ترصد مظاهر الفساد وتنبه الى مشكلات تونسية

الجسرة الثقافية الالكترونية
هيام الفرشيشي
هو اذاعي وروائي أصيل مدينة تستور ذات التصاميم المعمارية الأندلسية، نشأ في بيئة مازالت محافظة على عادات وتقاليد أندلسية منها المدينة العتيقة المحتفظة بعفوية تاريخية، كانت تبعث في خياله وفكره رغبة في سبر أغوار حضارة انتعشت وسقطت، فكان متتبعا للسيرة الأندلسية، معتبرا ان هذا التاريخ مسكوت عنه يستحق الاهتمام واجدا في استاذه محمد الحمروني الحكاية الحقيقية للسيرة الأندلسية.
عمل بالتعليم ثم انتقل الى العمل الاذاعي بدءا بإذاعة الكاف، ثم انتقل الى الاذاعة الوطنية. فمنحه العمل الاذاعي فرصة التنقل والحركة داخل كل المدن والقرى التونسية على امتداد طول البلاد وعرضها، هذا اضافة الى مرونته في التعامل مع طبائع الناس والنهل من مختلف المشارب الثقافية والاجتماعية وذاكرة تستبطن الكثير من التفاصيل والخفايا يعود اليها كصور مجتمعية لبيئات متنوعة عبر تحسس طبيعة الامكنة والشخصيات.
• رواياته
تنضوي مدونته الروائية على ثلاث روايات، “يوسف كما شاء” وهي رواية واقعية ورمزية 2010، ترصد مظاهر الفساد وتنبه الى مشكلات عديدة منها البطالة والتهميش والتهريب وفساد قطاع النقل الحضري واللوبيات الثقافية.
في “بيتنا قناص” الصادرة في 2011 وهي رواية واقعية واكبت اهم مراحل الثورة وأسبابها. و”طمارة كما شاءت” 2012، تتحدث عن تهجير المسلمين بعد سقوط الأندلس، والصراع الديني. تدور احداثها بين نهاية القرن السّادس عشر وبداية القرن السّابع عشر للميلاد سنوات الهجرة الأندلسية الثّالثة الّتي انتهى فيها المطاف بالأندلسيين المتّجهين إلى تونس بالاستقرار في مدن عدّة في الضفة الاخرى للبحر الابيض المتوسط ومنها تونس. لترسم رحلة المُهجّرين الأندلسيين إلى عالم المجهول في صراع دائم مع جراح الذّاكرة، مبينا ان العمل الروائي يحمي التاريخ من التزييف وهو في نفس الوقت للتعبير عن الواقع الراهن.
فالكتابة الروائية عنده وحسب تعبيره: “إثارة وتنبيه لقضايا الإنسان عموما والمواطن العربي بالخصوص في ظلّ الأنظمة العربية القائمة”. بل كان قد صرح لي في حوار صحفي: “وشخصيّا أنا على يقين من أنّ عالمي الرّوائي الخاصّ تؤطّره التّجربة الذّاتية دون شكّ وتدفع بمكوّنات الرّواية إلى فضاءات متنوّعة أردت من خلالها أن يكون القارئ منغمسا في الرّواية لأنّها تُعبّر عنه وقد يجد ذاته فيها، وهو لعمري شرط أساسيّ في استدراجه إلى عوالم ليست بالغريبة عنه.
الرّواية صفحة من صفحات عمر الكاتب، وهي أيضا في نظري مجال شاسع لممارسة متعة السّفر إلى أذهان القرّاء عبر بوّابات واقعيّة نساهم إلى حدّ ما في دفعهم إلى البحث عن ذواتهم وهذا أمر موكول إلى الرّوائيّ حتّى يكون في مستوى أداء الرّسالة وليس بغريب عنهم”.
• روايات تدور في فضاءات قلقة
تدور روايات مراد البجاوي في بيئات قلقة تعيش تصدعات سياسية حادة ففي “بيتنا قناص” رواية تحيلك منذ عنوانها على حالة من التوتر بين البيت والعالم الخارجي المليئ بالعنف والتوجس، بل يفقد البيت طمأنينته وألفته وما يقبع بين جدرانه وبين فضاءاته من ذكريات وصور وأحلام ويتحول الفضاء الخارجي للبيت الى مبعث للسأم، ويتلبس بالزمن المتفرس في المجهول، وتتحول الاستفاقة الى حالة استبطان لصور الكابوس.
المكان الخارجي هو على خلاف البيت مبعث الحيرة والتساؤل عن المصير الغامض: “إنه ينطلق في سعيه المعتاد ولا شيء يزج به في دائرة التفكير إلا ما استعصى عليه استيعابه من أفكار يلتقطها من هنا وهناك. فتزيد من حيرته وترسم أمامه أصعب سؤال قد يعجز على فك فحواه، فتراه يردد: “إلى أين نسير؟ اللهم أستر العاقبة”.
البيت وما يمثله من فضاء لـ “تكييف الخيال” حسب باشلار يقابله عالم ساكن أشبه برحلة على متن حافلة صفراء تجوب الشوارع”، بين حميمية البيت وصخب الشارع المنبئ بافنجار ثورة بركانية بعدما قدح فتيل النار عبر فعل الانتحار اقتصاصا من الواقع، تصبح عربة للبائع المتجول حديث الناس، صخب يقابله توجس واقتضاب الحركة في الشارع وعودة الى البيت الأليف الى تفاصيله وصوره القديمة، الى رفض خالد دخول النت الى بيته التي قوضت الحنين للمكان، تضاف الى ذلك فاتورة الكهرباء، افتكاك الاراضي، التلاعب في مخزون الدولة وثرواتها، العنف في الملاعب، توتر العلاقة بين الأستاذ والتلميذ.
وفي رواية “طمارة كما شاءت” فقد اختار مرحلة سقوط غرناطة كآخر إمارة اسلامية في الأندلس، انطلاقا من الرواية التاريخية التي تتحدث عن زواج الملك الاسباني فرناندو بايزابيلا التي اشترطت كمهر لها أن يطهر الإمارة من كل عرق اسلامي، وما تعرض له المسلمون من تنكيل على أيدي المتشددين من الإسبان والعسس والمخبرين، واختار شخصياته من تلك الفترة ليجسموا معاناة المسلمين وما تعرضوا له من اعتداءات وحشية وتصرفات عنصرية تخص عرضهم ودينهم ورفض تزويجهم ببناتهم.
وتحدث عن التغلغل اليهودي من أحداث الرواية مثل نية الملك طرد العرب واليهود ثم اقتناعه بفكرة إبقاء اليهود الفاعلين في اقتصاد البلد بإيعاز من ايزابيلا التي قد تكون يهودية الأصل ليعرض وجهة نظره حول التغلغل اليهودي في اسبانيا والتحريض على الانتقام من العرب المسلمين لتجسيم حلم شعب الله المختار.
ولم يغب الخيال عن هذه الرواية عبر انتقاء شخصيات تعرضت الى أحداث مباغتة متوالية ومن صعوبات جمة، صعوبات لا تقتصر على اقامة الصلاة وتلاوة القرآن خلسة فالجد عبدالرحمان الذي كان يصلي في الدهليز لم يقع دفنه في مقبرة المسلمين الا خلسة وبطريقة ملتوية بعدما فشلت المحاولات الأولى لدفنه نظرا لتسييج المقابر المسلمة بالعسس. والحديث عن التعذيب والتنكيل وبكل أدواته الممكنة.
إنها رواية التوتر والهزات المتلاحقة في مجتمع بعثت فيه ترسبات عقود من الكراهية للمسلمين وقد توزعت مشاهد العنف على أغلب الاحداث.
في رواية “يوسف كما شاء” هي رحلة قلقة من منطقة جبلية الى العاصمة بما انها رحلة متعثرة على متن حافلة قديمة سرعان ما يقع انقاذها من الانزلاق في المنحدر عبر تثبيت الصخور ثم تعويضها بأخرى حديثة تتوقف بعد جزء من الرحلة لانها استخدمت في حالة طوارئ ولا يعرفون كيفية صيانتها، ثم اصلاح الحافلة القديمة، والرحلة مشحونة بالتوتر النفسي والمصادمات بين قابض الحافلة ويوسف ومع بعض الركاب ثم مع السائق وتعكس الفساد في شركة النقل والتأزم الاقتصادي باعتبار ان يوسف عاطل عن العمل وكان في رحلة للبحث عن الرجل الذي يعرف من قتل اباه وهو مهرب ورمز الفساد.
والرواية مطية ايضا لتناول الفساد في الاعلام الثقافي عند التقائه باذاعية تهتم بالشان الثقافي في تلك الحافلة، ثم حضوره ندوة شعرية اكتشف يوسف ان المحاضر يقدم بحثا مسروقا، هذا اضافة الى التنبيه الى مجتمع مكبل بالخطايا فيوسف يترك حبيبته حاملا ويتملص منها بعدما كان يعاشرها في مقبرة القرية، مقبرة تقبر احلاما عديدة..
• فضاءات تخترقها شخصيات قلقة على حساب ملامح الامكنة
في رواية “طمارة كما شاءت” فتنقل شخصيات الرواية وقطع الطريق والتخفي كل ذلك يؤكد مدى صعوبه هذه الحركة وما تتعرض له تبعاتها من أذى، فدرجة التوتر أعلى بكثير من مشاعر التعاطف المستتر من طرف البعض.
اذن هو الواقع برجاته الذي يزعزع حركات الشخصيات. والحركة المتوترة في الرواية التي بنيت على سلسلة مواقف تنبيء بالتوجس وتوقع الأذى، تجعل الزمن يتواصل على نسق متواصل حركي، لذلك تغلبت الحركة على العناية بأزياء الشخصيات إلا في إشارات خاطفة، مثل الخطوط المتشابكة في النقش، الروض بأزاهيره ومائه الزلال.. المألوف والفلامنكو وشعر ابي البقاء الرندي، ولكن يرسم المكان المتخيل كفضاء لحركة الشخصيات. وتغلبت حركة الشخصيات والأحداث المتلاحقة على رسم ملامح المكان الذي تشكل كلوحات متناثرة بين طيات الرواية دون أن يحتل موقعه الا كمكان حربي أبوي متوتر، مكان مراقب بدقة يصعب من خلاله حتى دفن الموتى.
وفي “بيتنا قناص” ما البيت والشوارع والمدن المنفجرة غضبا هنا الا استعارة إلى الوطن، وما يحمله من تجذر في المكان، الوطن الذي يمنح الشعور بالامان والحماية صار مفزعا في صورة كابوس خانق يهدد الحياة، ويتوه بالانسان في دوامة العبث. تجسيد تداعيات الثورة، وانبراء الوجه الكابوسي لنظام ما قبل الحركة المفصلية.
وفي “يوسف كما شاء” لا تمر الرحلة دون مشاحنات ودون مفاجآت تعثر رحلة السير، ولكن من حين الى آخر تتحول عين يوسف الى كاميرا ترصد الانسلاخ التدريجي للسهول عن المرتفعات الشاهقة والضيعات الفلاحية والعاملات وانغماسهن الجاد مع المعازق والمعاول دون كلل وتساؤله عن غياب الرجال في الحقول.
• روايات واقعية
لو صنفنا روايات مراد البجاوي لصنفناها روايات واقعية وان عادت الى الرمز في “يوسف كما شاء” أو الان والهنا “في بيتنا قناص”، او التاريخ في رواية “طمارة كما شاءت”، اعتمادا على رؤية روائية تبتكر الأحداث الموازية لأحداث التاريخ دون أن تسقط في التأريخ الدقيق .
الروائي يعود الى المرحلة الزمنية كنسيج لأحداث روائية متشعبة، حتى أن القارئ أحيانا يتوه في الأحداث قافزا على بعض التفاصيل، إلا أن رواياته تطرح قضايا لها علاقة بالحاضر/ الراهن وخاصة التوتر في المجتمع حين تهيمن فكرة العرق او الدين او اللغة او الفساد السياسي الذي تتناسل منه كل مظاهر الفساد في المجالات الاخرى، او ممارسة اعتى اساليب القمع، لتنجب فترة سياسية يتعقب فيها الحاضر الماضي، ويلاحق فيها سؤال الراهن التاريخ. بل هو تعقب سؤال الزمن الذي يتداخل فيه الماضي بالحاضر ويفعل فيه، ويهرب فيه الزمن الى الزمن الذاتي زمن الكاتب في رؤيته للاشياء والظواهر من حوله، فالعواطف الانسانية لا يقيدها دين أو عرق.
فالشخصيات الروائية “شخصيات موازية للواقع” بعوالمها المتخيلة، شخصيات من الزمن الماضي وشخصيات من الزمن الحاضر من أي زمن يعرف حروبا باسم التشدد الديني. او القمع السياسي، فزمن الرواية هو زمن الواقع بتشعباته، ولكن ينفث فيه طاقات الخيال والاحداث المبتكرة، ليمزج الواقع بالخيال.
المصدر: ميدل ايست اونلاين