رواية «طبل الصفيح» لغونتر غراس في ترجمتين عربيتين تعجان بالأخطاء

الجسرة الثقافية الالكترونية
*سمير جريس
المصدر: الحياة
«يستعرض غراس في حديقتنا الأدبية – التي تمتلئ بأحواض الزهور الصغيرة المُعتنى بها – كيف يمسك الإنسان بالفأس. هذا الرجل مشاغب كبير، سمكة قرش في بركة سردين، وحش ضار يسير منفرداً وسط حقل الأدب الألماني المستأنس الأليف»… هذا ما كتبه الشاعر والناقد هانز ماغنوس إنتسنسبرغر عن زميله غونتر غراس (1927 – 2015) إثر ظهور رواية «طبل الصفيح» عام 1959، متوقعاً أن تشغل النقد الأدبي في ألمانيا لعشر سنوات على الأقل مثيرةً «صرخات البهجة والاستهجان». وعلى رغم صرخات الاستهجان الكثيرة التي صاحبت ظهور الرواية، ووصف غراس بأنه كاتب إباحي ولا أخلاقي ولا ديني، فسرعان ما وضعت «طبل الصفيح» في مصاف رواية غوته التعليمية «فلهلم مايستر» ورواية توماس مان الكبيرة «الجبل السحري». دوي «طبل الصفيح» تجاوز بسرعة حدود ألمانيا، فترجمت الرواية إلى عدد كبير من اللغات،وأثرت في كتاب عالميين، مثل سلمان رشدي وجون إرفينغ ونادين غوردايمر الذين اعترفوا بأن أوسكار كان ملهماً لهم في الكتابة.
ولعل وفاة غراس قبل أسابيع تمثل مناسبة لقراءة، أو إعادة قراءة هذه الرواية الفذة التي رسم فيها غراس شخصية فريدة في الأدب العالمي: شخصية القزم أوسكار الذي يرفض النمو، ويفضح عالم الكبار الزائف من طريق التطبيل والصراخ القادر على تحطيم الزجاج. بهذه الشخصية القزم، الرافضة عن وعي قيمَ البطولة والعظمة، وجه غراس نقداً لاذعاً إلى مجتمعه في فترة النازية، وما أعقبها من محاولة الملايين التطهر من الذنب النازي عبر إنكار مشاركتهم فيه، أو إنكار حدوث جرائم النازيين أصلاً.
ثلاث ترجمات عربية بعد نوبل
بعد حصول غونتر غراس على جائزة نوبل عام 1999، توالت ترجمة أعماله إلى العربية، وكانت البداية مع روايته الأشهر، «طبل الصفيح»، التي تُرجمت في غضون عامين ثلاث مرات. كيف كان مستوى الترجمة العربية لهذا العمل العبقري؟ وهل تقترب الصورة العربية من الأصل الألماني؟ أم إنها بعيدة عن جماليات لغة غراس؟ أم إنها ربما تضارع جمال الأصل؟
صدرت الترجمة الأولى لهذه الرواية عن دار «الطريق الجديد» إثر فوز غراس بجائزة نوبل عام 1999، أي بعد أربعين عاماً على صدورها بالألمانية، وأنجزها موفق المشنوق عن الفرنسية. وفي العام التالي نُشرت الترجمة الثانية في بغداد تحت عنوان «طبل من صفيح»، وقام بها علي عبد الأمير صالح عن الإنكليزية. أما الثالثة فهي عن الألمانية مباشرة، وقام بها الكاتب والمترجم العراقي المقيم بألمانيا حسين الموزاني، وصدرت عن دار الجمل في عنوان «الطبل الصفيح». وبعد نحو 15 عاماً صدرت طبعة ثانية منقحة في عنوان «طبل الصفيح». إن صدور ثلاث ترجمات لعمل واحد عن ثلاث لغات خلال عامين إثر فوز كاتب بجائزة نوبل يبين حال الترجمة في العالم العربي، وافتقاد التنسيق بين المترجمين ودور النشر. هذا التخبط ما كان له أن يحدث لو كانت الترجمة تتم بطريقة مشروعة بعد الحصول على حقوق الترجمة، وهو ما لم تفعله سوى دار الجمل.
لقد تعذر عليّ للأسف الشديد الحصول على ترجمة علي عبد الأمير، لذلك سأقتصر في كلامي هنا على الترجمتين الأولى والثالثة، أي ترجمة موفق المشنوق، وترجمة حسين الموزاني.
في البداية لا بد من التشديد على صعوبة أسلوب غراس بجمله الطويلة المفعمة بالتفاصيل، وصوره البلاغية المبتكرة، وإحالاته التاريخية والثقافية المتنوعة. لذلك، فإن ترجمة أعمال غونتر غراس تمثل تحدياً ضخماً لأي مترجم، مهما كان متمكناً، لا سيما إذا كان العمل يقترب من نحو 800 صفحة مثل «طبل الصفيح». من هنا، لا بد من أن نتوجه بالشكر الجزيل لمن ينهض بمهمة ترجمة أعمال غراس، فهو يتجشم مصاعب لا حصر لها من أجل إطلاع قراء العربية على إبداع هذا الأديب الكبير.
تُظهِر ترجمة المشنوق في كثير من فقراتها إشكاليات الترجمة عن لغة وسيطة، فالترجمة في حد ذاتها ليست سيئة، ولكن يعيبها عدم الدقة بسبب اعتمادها على ترجمة أخرى. فإذا كانت كل ترجمة تتضمن مقداراً من التأويل والتفسير، والحذف والإضافة، وأحيانا التشويه والشطط، أو سوء الفهم والخطأ، فإن الترجمة عن ترجمة تعني مقداراً مزدوجاً من هذا كله. إضافة إلى ذلك، فإن الانطباع يتولد لدى القارئ العربي أنه يقرأ عملاً بنكهة فرنسية، وليس عملاً تُجرى أحداثه في دانتسغ أو ألمانيا النازية، وهو ما يتضح في شكل خاص في أسماء الشوارع والشخصيات. قد يبدو ذلك بسيطاً، لكنه أمر إشكالي في رواية تستحضر تاريخ ألمانيا قبل الحرب وبعدها، وكذلك جغرافيا الرايخ الثالث.
لا شك في أن ترجمة حسين الموزاني – وهي الترجمة التي سأركز عليها لأنها عن الألمانية مباشرة – هي الأقرب إلى روح العمل الألماني. لكنها كانت حافلة في طبعتها الأولى (2000) بأنواع شتى من الأخطاء في الترجمة والطباعة. ويمكن القول أن الترجمة في طبعتها الثانية (2014) جيدة إلى حد كبير، غير أنها لم تخلُ – هي أيضاً – من أخطاء كثيرة في الطباعة والترجمة. وسأتغاضى هنا عن الأخطاء المطبعية والإملائية الكثيرة وأخطاء الصياغة، فهي في اعتقادي مسؤولية المصحح والمراجع في دور النشر قبل أن تكون مسؤولية المترجم المنهمك في عمل ضخم كهذا. ولكن، هل هناك مصحح أو مراجع في كل دور النشر العربية؟
ما أود مناقشته هنا ليس هذا الخطأ أو ذلك الذي وقع فيه المترجم، بل بعض الإشكاليات التي تواجهه، ومناقشة الحلول التي اختارها، والتساؤل عن مدى التوفيق الذي أصابه خلال ذلك.
إشكاليات الترجمة
في الرواية يعجب أوسكار بشخصية راسبوتين، عاشق النساء، ويفضله على الأديب غوته الذي كان يهرب من نسائه. وفي عبارة ساخرة يقول أوسكار عن غوته: «سيصرعك أيها المسكين التافه بمؤلفه الضخم عن علم الألوان، هذا إذا لم يقتلك بقبضته». (ص 117 من الطبعة الثانية). والحقيقة أن الجملة في هذا الشكل غير صحيحة، فالمقصود هنا «فاوست» – عنوان أشهر أعمال غوته – وليس القبضة، كما تعني كلمة Faust حرفياً. ويفرق الألمان بين القبضة (كلمة مؤنثة)، وبين شخصية فاوست في العمل المشهور (وهي كلمة مذكرة)؛ أي أن المقصود: إذا لم يصرعك بمؤلفه الضخم عن علم الألوان، فسيقتلك بـ «فاوست». وكان الموزاني قد كتب هامشاً يوضح فيه هذا التلاعب اللفظي في الطبعة الأولى، لكنه رأى – لسبب لا أعلمه – حذفه في الطبعة الثانية.
أما العمل الآخر لغوته الوارد في الرواية، فقد فضل المترجم أن يكتبه بلفظه الألماني، هكذا «فالفيرفاندشافتن». ولا أعرف ما إذا كانت الجملة التالية مفهومة لدى القارئ العربي: «فالفيرفاندشافتن» لا تستطيع حل جميع المشاكل ذات الطابع الجنسي.
هل سيعرف القارئ – من دون أي شرح أو توضيح من المترجم – أن هذه الكلمة الغليظة الطويلة المكتوبة بين مزدوجين تعني عنوان رواية غوته الشهيرة التي ترجمها عبدالرحمن بدوي قبل عقود إلى العربية تحت عنوان «الأنساب المختارة»؟
يعرف المهتمون بالتاريخ الألماني «ليلة الكريستال» المشهورة، أو «ليلة الرايخ البلورية»، وهي الليلة الواقعة بين التاسع والعاشر من نوفمبر 1938، والتي بدأت فيها أعمال عنف منظمة ضد اليهود في الرايخ الثالث. هذه الليلة تحولت في الترجمة إلى ليل ممتد من الخامس إلى العاشر من تشرين الثاني (نوفمبر) (ص 233 من الطبعة الأولى، وص 256 من الطبعة الثانية).
إلى ذلك، هناك كلمات أو أجزاء من عبارات سقطت سهواً في الترجمة، كما يشعر القارئ باستغراب لدى قراءته بعض العبارات التي تلتزم التزاماً شديداً بتركيبة الجملة الألمانية، أو المترجمة ترجمة حرفية. ويتضح ذلك بصورة خاصة في ترجمة بعض العبارات الاصطلاحية، مثل: وجه الرجل «المغسول بمياه الأرض كلها». والمقصود بالعبارة وجه رجل داهية ماكر، وأصل الكلمة الألمانية يحيل إلى البحارة الذين جابوا البحار والمحيطات، فجمعوا لذلك خبرة كبيرة (ص 413 من الطبعة الثانية من ترجمة الموزاني). وقد ترجم المشنوق هذه العبارة بـ «الوجه المنذهل» (ص 326)، وهي أيضاً خاطئة، وإنْ كانت غير حرفية.
وعلى رغم الحرفية الشديدة في بعض المواضع، فإن هناك تصرفاً في أماكن تتطلب الالتزام ببنية الجملة الأصلية، فمن الصيغ المحببة لدى غراس صيغة الحكاية الشعبية التي تبدأ بـ «كان يا ما كان». استخدم غراس هذه الصيغة في «طبل الصفيح» و «سنوات الكلاب»، وأيضاً في أحد أعماله الأخيرة وهي «الصندوق». هذه الصيغة تكررت كثيراً في فصل «إيمان ورجاء ومحبة». ولنقرأ هذه الفقرة في الترجمتين:
«كان هناك موسيقي اسمه ماين يعزف على البوق في شكل رائع تماماً، وبائع لعب أطفال اسمه ماركوس، كان يبيع الطبول البيضاء والحمراء الطلاء. وثمة موسيقي اسمه ماين… (ترجمة الموزاني، ص 261 من الطبعة الثانية).
«كان يا ما كان، كان هنالك موسيقي اسمه ماين ويعزف على البوق بصورة رائعة. كان يا ما كان، كان هنالك بائع ألعاب، اسمه ماركوس، يبيع طبولاً من الحديد المطروق المدهون بالأحمر والأبيض. كان يا ما كان، كان هنالك واحد موسيقي اسمه ماين… (ترجمة المشنوق، ص 204).
وفي ظني، يجانب التوفيق الموزاني أحياناً في اختيار اللفظة التي تقابل الأصل. لذلك، قد يتساءل القارئ: لماذا يستخدم كلمة «مُعين» (المستخدمة في العراق) كترجمة للكلمة الألمانية Pfleger التي تعني «ممرض»، وهي الكلمة التي استخدمها المشنوق، والشائعة في العالم العربي كله؟ وما هو الرمث؟ نعم، هي كلمة صحيحة، ولكن أليس من الأفضل استخدام كلمة «الطوف» الأكثر شيوعاً؟ وهل لا بد من الترجمة الحرفية للكلمة الألمانية القديمة، والتي لم تعد تُستعمل الآن مثل Kolonialwarenhaendler أي «تاجر بضائع المستعمرات»؟ أم إن علينا أن نقول بكل بساطة: «بقال»؟ وهل «ضربَ الصليب» هي الترجمة الأنسب، أم رسمَ علامة الصليب؟ وهل استخدام كلمة «البصاق» (ص 346 من الطبعة الثانية) صحيح في مشهد حسي يثير شهوة أوسكار، أم إن كلمة «اللعاب» أو «الريق» هي الأفضل هنا؟ وأقصد هنا المشهد الذي يستخدم فيه أوسكار لعابه لجعل مسحوق بطعم الفاكهة يفور على كف ماريا، ثم في سرتها.
هذه مجرد أمثلة فحسب، وأنا متأكد من أنها لا ترجع في معظمها إلى عدم معرفة، بل إلى التعجل الشديد في الترجمة بعد حصول غراس على جائزة نوبل، وغياب المصحح والمراجع في دار النشر.
تحت عنوان «الإيقاع وصداه البعيد» تحدث الموزاني في مقدمة الطبعة الثانية عن خبراته خلال ترجمة «طبل الصفيح»، مؤكداً أهمية الإيقاع لدى غراس الذي كان يردد ما يدونه بصوت عال كما لو أنه يلقيه إلقاء. وكان الموزاني موفقاً كل التوفيق في نقل فقرات حافظ فيها على إيقاع الجملة لدى غراس، لا سيما في هذا المقطع الوارد في آخر الرواية: «تحت اللمبات وُلدت، وفي سن الثالثة توقفتُ عن النمو عمداً، وطبلاً تسلمتُ، وزجاجاً حطمتُ، وعطرَ فانيلا شممتُ … وإلى الغرب رحلتُ، والمشرقَ ضيعتُ، والنحتَ تعلمتُ، وموديلاً وقفتُ، إلى التطبيل عدتُ… واليوم في عيد ميلادي الثلاثين احتفلتُ، لكني خائف من الطاهية السوداء ما زلتُ – آمين».
ولدى الموزاني كل الحق عندما يشير في مقدمة الطبعة الثانية إلى «ثراء السرد» لدى غراس، و «فقر القاموس» العربي. وكم كان صادقاً عندما قال في مقالة أخرى: «إن ترجمة أعمال غراس لا تعني سوى شيء واحد، وهو تحويل حشيش مزدهر إلى تبن يابس». وأحسب أن هذه المشكلة ستواجه قارئ غراس في معظم الترجمات إلى اللغات الأخرى، وإنْ اختلفت الدرجة.