رينوار الأب في مذكرات ابنه

الجسرة الثقافية الالكترونية-الحياة-
من الصعب أن نصدّق أنّ فناناً مثل رينوار يُمكن أن يقول إنّ: «الأسود ملك الألوان»، ولكن هذا فعلاً ما يؤكده ابنه السينمائي جان رينوار في كتابه البديع «رينوار… أبي» (دار المدى، ترجمة عباس المفرجي).
يصطحب الكاتب، وهو الابن الذي ظهر في أكثر لوحات رينوار شهرة مثل: «جان مع صف الأبنية» و»جان يتناول الحساء» و «جان ينظر إلى كتاب مصور»، قارئه في رحلة شيقة عبر صفحات الكتاب المملوء بأكثر التفاصيل إثارة حول حياة فنان الانطباعية أوغست رينوار. فنشعر بأننا نتجسّس عبر الكلمات على مرسمه وألوانه وفراشيه المصنوعة من شعر طائر الخطاف… إنّه مرسم منظّم يليق برينوار الموسوس بالنظافة، والذي يحكم على الناس الذين يلتقيهم أول مرة من خلال أيديهم: «هل رأيت هذا الرجل كيف يفتح علبة سجائره؟ إنه وغد. وهذه المرأة، هل لاحظت الطريقة التي تصفف بها شعرها بإصبع السبابة؟ فتاة رائعة»… بل يقوم أحياناً بتصنيف الأيدي ووصفها:» يدان حمقاوان. يدان رطبتان. يدان مبتذلتان. يدا عاهرة…». وعندما اختار زوجة جميلة اسمها ألين شاريغو كان معجباً بطريقتها في تناول طعامها، فوصفها لابنه خلال سني شيخوخته: «كان شيئاً ممتعاً أن ترى أمك وهي تأكل. مختلفة عن نساء المجتمع اللائي يجلبن لأنفسهن آلام المعدة للبقاء نحيفات وشاحبات. كانت ممتلئة الجسم بانحناءات جميلة وخصر نحلة».
يكشف الكتاب إعجاب رينوار بجمال زوجته إلى حدّ أنه كان أحياناً يضع الألوان جانباً ويظل يحدق بها بدلاً من الرسم، سائلاً نفسه: «لم العناء؟، مادام الذي أحاول الوصول إليه موجود أصلاً ؟». شكلها وجسدها مطابقان للقوانين التي صاغها رينوار، فعيناها اللوزيتان كانتا تفصحان عن عقل متوازن، وكانت لها خطوة خفيفة «يمكنها أن تمشي على العشب من دون أن تجعده»، وتعرف كيف ترفع خصل شعرها الجامح، تضمها بلا إتقان، على شكل كعكة الشينيون، من دون تباهٍ.
أمّا الأشياء التي أضافتها زوجته إلى حياته فكثيرة كراحة البال، وأطفال يمكن رسمهم، وأعذار مقبولة كي لا يخرج في الأماسي، والقدرة على التأمل.
وكان صاحب «المستحمّات» يردد وفق ما يقول ابنه :»لا أطيق أن يكون حولي سوى النساء، أحببت النساء حتى قبل أن أتعلم المشي». وانطلاقاً من هذا الرابط الذي جمع رينوار بالمرأة، قدّم الابن في كتابه وصفاً دقيقاً وشيقاً لعلاقة رينوار بموديلاته أو عارضاته.
كان رينوار يثق بأن الموهبة تورّث: «نواة الخوخ لا تعطي ثمرة تفاح»، لكنه يُقر أيضاً بالمؤثرات: «أكثر عيوب الأطفال ومزاياهم تنتج من أولئك الذين عنوا بتربيتهم. أمير يخطفه الغجر، سيتعلم سرقة الدجاج مثل بقية الغجر، ولكن ربما سيسرقه بطريقة أميرية».
ويعرض الكتاب علاقة رينوار بشكل العالم من حوله، إذ كان يكره التغيرات السريعة في العالم المعاصر، ويرى أن الحياة المادية والآلات والإنتاج الكبير تخمد الفردية وتفسد الطبيعة وقيم الفن، بل هي «جذام الصناعة الحديثة».
يقدم جان وصفاً مباشراً لبعض مواضيع بورتريهات والده رينوار، الذي كان يحب رسم «البورتريه» بوجه خاص. فكان في صغره يرسم صوراً زيتية تشبه الأصل لوالديه، وإخوته وأخته، والجيران، والكلاب والقطط، وكل شخص وكل شيء، وهذا ما ظلّ يفعله بقية حياته. وكان ينظر إلى العالم باحترام، كمستودع لأشياء خلقت من أجله هو فحسب.
يصف «رينوار… أبي» تفاصيل علاقة الرسام بكلّ فناني الانطباعية مثل سيزان وديغا وغوغان، وبالكتاب أيضاً مثل أوسكار وايلد وموباسان الذي يصف شخصية رينوار بقوله: «كان دائماً ينظر إلى الجانب المشرق من الأمور».
يمكن اعتبار هذا المؤلف عن حياة رينوار بمثابة نص انطباعي عن الماضي. كتاب يشبه لوحات رينوار، بومضات ساحرة عن طفولته وعائلته وأصدقائه وأشخاص كانوا موضع إعجاب رينوار الشاب، الذي كان يرى مونمارتر «حيّاً حيوياً كالزئبق»، كما كان يصفه أبناؤه آنذاك.
يعترف رينوار الابن أن جل الحوارات الواردة في الكتاب هي أحاديث مستلّة من الماضي، ونتساءل هل هو رينوار حقاً أم إنه تصوّر الإبن الخاص عن الأب؟
من الواضح أن الابن يسرد الذكريات على نحو عشوائي، لكنه نجح في ترتيبها، على نحو جذاب وواقعي ليشكل «بانوراما» عامة عن حياة الرسام الذي كان يعتبر أنه «ما من إنسان، منظر طبيعي، أو موضوع لا يمتلك، على الأقل شيئاً من التشويق – رغم أنه يكون أحياناً مطموراً. وحين يكتشف الفنان هذا الكنز، فإن الآخرين سيهتفون في الحال بجماله».
لم يوفر الابن الوقت ولا الذكريات ولا المعلومات حتى يرسم صورة واضحة وجديدة لفنان الانطباعية رينوار، الذي عاش حياة بوهيمية ولم يحظَ بالثروة والشهرة إلا في السنوات الأخيرة من حياته، في حين قضى أيام شبابه متسكعاً في طرقات مونمارتر، «حي الفنانين».
يعتبر نقاد الفن أن رينوار هو مصور البهجة بحق. فالألوان عنده ساطعة وفرحة، جميلة وصافية ومعبرة، وكل شيء يبتسم في لوحاته.
ترك رينوار إرثاً كبيراً من اللوحات الفنية المملوءة بثراء اللون المستوحى من ألوان البشرة للجسد الإنساني، من ألوان الزهور التي برع في تصويرها، إضافة إلى صور نسائه التي توحي بـ «الغريزية» المباشرة للأنثى الممتلئة الجسد مضيفاً إليها ألوانه المشرقة لتظل بمثابة الأيقونات الفنية التي تشهد على مرور فنان رأى أضواء كثيرة في ضوء واحد.