زمن الفن العربي

الجسرة الثقافية الالكترونية
*فاروق يوسف
المصدر: الحياة
يعيش الفنان التشكيلي العربي اليوم في أزمة خانقة. لا تتعلق تلك الأزمة بالهوية، ولا بقياس المسافة بين ما ننجزه محلياً وقومياً وبين ما هو متداول من فنون في عالمنا المعاصر، الغرب بالتحديد، وهو الذي كان ولا يزال ضالتنا البصرية. فالفجوة بيننا وبين الغرب صارت لا تقاس بالسنوات المرئية. أما بالنسبة للهوية، التي كانت يوماً ما واحدة من أعظم إشكالات السؤال الوجودي المتعلق بالفن فقد تم تجاوزها بعد أن تغيّرت سبل العيش المتاح وكثرت وسائل الاتصال وتمدّد مفهوم الزمان. أزمة الفنان العربي الحقيقية كما أرى تكمن في عدم قدرته على اللحاق بمصائر البشر، بشره الذين هم مادته ومستهلكوه في الوقت نفسه.
من المؤكد أن الفنان العربي كان أصيب بصدمة تاريخية أربكته حين تأكد له أن الوقائع على الأرض سبقت خياله المتمرد وأفرغت تقنياته من قدرتها على طبخ المفاجآت، السارة والحزينة على السواء. فلا تشاؤمه أدرك الفجيعة التي تقترب برمادها ولا تفاؤله أنعم النظر في ما سيشهده العالم العربي من تحولات جذرية خطيرة. لقد وجه الواقع ضربة لخياله الفني، قد لا يستفيق منها إلا بعد أن يغيّر العالم العربي جلده. يومها سيكون النتاج الفني العربي كله عبارة عن مراثٍ ضالة، تذكّر بالمراثي التي كتبها العرب شعراً بعد سقوط الأندلس. فهل كانت غفلة الفنان العربي تمهيداً ثقافياً لهزيمة سيشهدها الإنسان العربي وهو يكتشف خواء لغته البصرية التي لم تعد صالحة للاستعمال؟
كانت المسافة بين الفن والحياة، كيلا نقول الناس، فهم لم يكونوا مرئيين بالنسبة للفنان العربي، تشي بما يمكن أن يقع من قطيعة قاتلة. لقد سقط الفن العربي في فخ الحياد، حين افترض الفنانون أن لغة حياته المجاورة لا يمكن أن تتقاطع مع لغة حياة الناس العاديين. وهو ما أفقدهم عاطفة مجانية هي في حقيقتها مصدر غنى تعبيري لما تنطوي عليه من شعور مبكر بالخطر. بسبب تلك القطيعة صار الفن ممارسة تقنية يشهد لها الجمال المنبعث من داخلها أكثر مما يشهق بها الواقع. كانت تجربة الجمال الفني نوعاً من الخيانة في ظل واقع كان يزخر بالبؤس والتعاسة والفقر والأمية والتعصب الديني.
لذلك لم تكن المعادلة الفنية منصفة.
“لقد أخطأنا” لم يقلها أحد، غير أنه اعتراف لا ينفع في شيء ولن ينقذ الفن الأصيل من نتائج غيابه، بعد أن ركزت مؤسسات فنية وجودها على أساس إشاعة نوع بديل من الفن، يكون بخطابه الشعبوي، بكل ما ينطوي عليه ذلك الخطاب من تبسيط فن الحاجة اليومية، حيث تقع ذريعته في ما يعيشه الناس العاديون من أسباب للشعور بالخيبة.
المؤسف في الأمر أن مصير الناس كله كان قد تغيّر في فوضى لم يشهد لها العالم العربي مثيلاً من قبل ولا يزال الفن في مكانه مثل حصان عاثر. لم يتخطّ الفنان العربي بوّابة فتوحاته التي أنجزها في ستينات القرن الماضي. هل هي خمسون سنة ميتة؟ أما كان التاريخ محقاً في أن يحذف من سيرته شيئاً اسمه الفن العربي؟
كل هذا الذعر الذي يعيشه العالم العربي، كل هذا الرعب والقتل والتشرّد والضياع، كل هذه الأوطان التي فقدت هوياتها، كل هذا الزمن الافتراضي الذي صار محطة انتظار بالنسبة لشعوب لا ترى خيراً في ما تنتظره، كل هذا الليل الذي لا ينبئ عن نهار يتبعه لم يكن كفيلاً في الانتقال بالفن العربي من مرحلة الثقة بالجمال التجريبي إلى مرحلة الكفر بذلك الجمال. ما الذي ينتظر الفنان العربي وقوعه لكي يتأكد من كونه لا يزال كائناً حياً؟
من وجهة نظري فإن زمن الفن العربي صار مستنفداً وهو غير صالح للاستهلاك. غير أن البدائل التي تطرحها مؤسسات فنية، كانت قد أقيمت على أساس نفعي لن تكون قادرة على خلق فن عربي بديل. هناك تاريخ فني كان قد انتهى بالهزيمة، وهو ما يُطوى بصعوبة، ذلك لأن تاريخاً جديداً يبدأ بالخسران لن يكون أحد قادراً على الرهان عليه.