زهراء عبد الله تروي مأساة السبايا الايزيديات

منال عبد الأحد
من «على مائدة داعش» تروي الكاتبة السورية زهراء عبدالله وقائع السبي بين الموصل والرقة على لسان فتاة إيزيدية اسمها «يوفا» تحاول على درب الألم الشاق ذاك، أن تستحضر بعضاً من ماضيها ولحظات جمعتها بحبيبها «سيروان» لتطفئ جمر الألم المشتعل في جسد بات مباحاً لكل رغبات المغتصبين الذين يطبقون في سبيّتهم ما يرونه «شرعياً».
ولعل هذه هي المعضلة الأبرز التي تستند إليها زهراء عبدالله في روايتها الأولى، «على مائدة داعش»، (دار الآداب)، فالدين الإسلامي لا يمكن أن يكون هو نفسه من يشرّع القتل والاغتصاب.
يبدو للقارئ جلياً أن عبدالله نكأت جيداً جراح من حاورتهن من الناجيات الإيزيدات، وفق ما تمت الإشارة إليه في خلفية الرواية، إذ نشعر بوحشية كل مغتصب ويتراءى لنا أن الرواية حصلت فعلاً على النحو الذي جرت فيه الأحداث تماماً، بحيث نجحت الكاتبة في إخراج الوقائع التي سمعتها من إطارها الزماني والمكاني التفصيليين لتوظّفها في سياق مشابه شكّل وقائع هذه الرواية. وهنا، وبالرجوع إلى ما تمت الإشارة إليه في خلفية الرواية عن كون الشخصيات روائية، تبرز جدلية العلاقة بين ما هو متخيَّل وما هو خيالي، إذ يبقى الأول مستمدّاً من واقع خصب لقصص كثيرة حدثت فعلاً وانتزعت من إطارها الزماني، المكاني والتفصيلي لتساهم في تركيب وقائع شكّلت أحداث الرواية التي ترد على لسان «يوفا»، هي العاجزة عن الانسلاخ عن ماضيها فتحكي علّها تضمد من خلال ذكرياتها مع حبيبها وأهلها جراح الاغتصاب المتتالي الذي انتهك بكارتها وإنسانيتها باسم الشرع . ولأن الدين من ذلك براء، ولأن هذا انتهاك للروح الدينية اختارت عبدالله أن تقوم أم سليمان وابن أخيها أحمد بإنقاذ «يوفا» على أمل أن يلتئم شملها بحبيبها «سيروان»، لتهرب تماماً كما فعل عمر – ابن أم محمد – سابقاً حتى لا يضطر للانضمام إلى صفوف التنظيم. «أليس دينهم هو دينكم نفسه؟ (…) لا إنه ليس نفسه، ديننا هو الإسلام، هل تعلمين ما هو الإسلام؟ نعم لقد علموني بعضاً من تعاليمه حين اختطفوني. حدَّقت بعينيَّ نظرات دقيقة فيها كثير من الشرح، لكنّها اكتفت بالقول: ليس هذا هو الإسلام، إنَّهم لا يمثلونه أبداً.(…) الإسلام بريء منهم، بريء منهم»، ص177. وتروي «يوفا» تالياً: «أنتظر هذه المرة أن يعلو الأذان بكلِّ المآذن، بكلِّ الأراضي، بكلّ السماوات مددت يدي إلى أعلى، إلى السماء، كأني أراها واضحة وقريبة أكثر من أي وقت مضى. أسمع أم سليمان تصلّي في الغرفة الأخرى، وترفع صوتها: يا رب السماوات، يا حيّ يا قيوم، أنت قادر ولا أحد قادر غيرك، احمِ يوفا… يا الله!»، ص181.
تكثّف الكاتبة حضور الشخصيات في الرواية من خلال قصص تتشابه، أرواح تسبى على مقصلة الشرع وجرائم تُرتَكب باسم الدين. نساء مسبيات لا حول لهن ولا قوة وأخريات غُسِلت أدمغتهن فاقتنعن أن هذا هو الجهاد وهذا ما يجب أن تكون عليه الحال.
وتجيد عبدالله نحت معالم شخصياتها بإتقان فلا تبدو أي منها ثانوية أو عابرة مهما صغر دورها، بل تظهر الأحداث كسلسلة ذات حلقات مترابطة تشكّل عقد الرواية الذي يشهد بعض التخلخل أحياناً، بحيث تسرف الكاتبة في الوصف الإنشائي، إلا أنّه يبقى صامداً بفضل متانة التركيبة السيكولوجية للشخصيات وآلية صهرها في القالب السردي؛ وإن بالغت عبدالله في استعمال العوامل الاستيتيكية أحياناً وأثقلت النص بمعانٍ كان يمكن الاستعاضة عنها بالسهل الممتنع، إلا أنّها آثرت استعمال الجمل المتداخلة ربما في محاولة لاستعراض مهارات لغوية ونفحة شاعرية تملكها لا شك.
إنها عبثية الذات البشرية في صراعها مع نفسها ومع محيطها وصراع البقاء الذي يتأجج في ذواتنا في لحظة حاسمة مع القدر لا تعود فيها للمعتقدات قيمة بل يغزو الخوف القلوب ويتّحد مصير الضحية مع مصير الجاني؛ وقد أجادت عبدالله التعبير عن هذه التناقضات فلم تمرّ عليها مرور الكرام ولم تبالغ في الوقت عينه بالجرعة الدرامية بل أظهرتها كما قد تبدو لنا في الواقع: «قد أموت الآن تحت إحدى المقاصل المسنَّنة المتجهِّزة حولي، أو قد أموت بأيّة قذيفة قد تهوي، مخترقة السقف إلى رأسي، فتهشّمه إلى آلاف الشظايا. اختلط المنقذ بالجاني»، ص157.
ضمّنت عبدالله نصها الكثير من الحواشي في الصفحات الأولى مما جعلنا نستنتج ربما أنها تقحم المعتقدات والعادات الإيزيدية أحياناً في مسعى منها للتأكيد على تلك الأبحاث المكثفة التي تمت الإشارة إليها في الجهة الخلفية للرواية، وكان الأجدى بها تطويع ما جمعت من معطيات ومعلومات في خدمة نصها واستعمال ما هو كافٍ ووافٍ فقط.
وتجدر الإشارة إلى خلل ما في إحدى المعطيات الأساسية التي تعود لتبنى عليها خاتمة الرواية. فإنه وفي بداية الرواية، وللمفارقة، كان «سيروان» قد رفض الهرب مع «يوفا» وآثر البقاء لحماية المزارات، هو الذي لم يعر الأعراف والتقاليد أي اهتمام من ذي قبل. وكان قد طالب «يوفا» مراراً بالهرب معه لكونهما من طبقتين مختلفتين وزواجهما محرّم. وتأتي نهاية الرواية مفتوحة على احتمالات كثيرة، خصوصاً أن «سيروان» الذي أكد لأحمد أنه آتٍ لاصطحاب «يوفا» لم يحضر في الموعد المحدد له، وبقي مصير «سيروان» مشوباً بالغموض، فيما مضت «يوفا» لتواجه مصيرها بمفردها.
(الحياة)