سبابها اجتماعية وسياسية وبيئية: عراقيون: خشية الكلام لعقود طويلة أيبست حناجرنا

الجسرة الثقافية الالكترونية
*صفاء ذياب
من تندرات الطبيب النفسي العراقي الدكتور ريكان إبراهيم حينما جاءه اثنان لعيادته، الأول عامل مصري حاول أن يوضح لإبراهيم مشكلته، فبقي يتحدث له أكثر من نصف ساعة عما يخالجه، والأحلام التي يراها في منامه، ومن ثمَّ كيفية شعوره بيومه وحياته القاسية، وهو يعمل في رفع البضائع الثقيلة وما ينجم عنها من مشاكل نفسية وجسدية. الحالة الثانية هي زيارة هادي النهر؛ أستاذ اللغة العربية، لإبراهيم، وبعد أن تحدث له لوقت قصير لم يتمكن من التعبير عما يخالجه بشكل واضح ودقيق.
إبراهيم لم يتعب كثيراً في تشخيص حالة العامل المصري، لأنه كان يعرف كيف يتحدث من دون أي معوقات، في كان تشخصيه لهادي النهر صعباً، لأنه لم يعرف بالضبط ما الذي يعاني منه. معللاً ذلك بطبيعة الشخصية العراقية التي تعرف ما تريد وتدرك المحيط بشكل لافت، غير أن هناك عوائق كثيرة تمنعها من الحديث بطلاقة وسهولة.
الأمر نفسه ربما ينطبق على المثقفين واﻷدباء.. في الوقت الذي نرى غير متعلمين من جنسيات أخرى يناقشون بثقة في موضوعات ربما لم يسمعوا عنها حتى.. فلماذا يشعر العراقي بأن هناك ما يلجم صوته؟
منابع التنشئة
يقول الشاعر والباحث الاجتماعي واثق صادق إنه لا يمكن أن يقف عامل واحد وراء هذه الظاهرة التي تكاد تأخذ صفة العمومية في المجتمع العراقي، خاصة بين شرائح الشباب والبالغين عموماً، إذ أن مجموعة كبيرة من الأسباب والعوامل يمكن أن تفسر التشنج والتعصب والرغبة في إقناع الآخر باستعمال الصوت العالي، والحديث المنفعل في أحيان كثيرة… في مقدمة هذه العوامل تقف التنشئة الأسرية التي يتلقاها الأفراد في بيئاتهم الأولى، وبطبيعة الحال، فإن الأسرة العراقية مرت بمخاضات كبيرة بسبب الحروب المتعددة، والعقوبات الاقتصادية الدولية، وانتهاء بحرب عام 2003، وما تلاها من عنف ما زال مستمراً حتى الوقت الحاضر، وهو ما جعل الجو الأسري والعائلي مشحوناً ومتوتراً في أغلب الأحيان، ومارس ضغطاً هائلاً وكبيراً على الأبوين وبقية أفراد العائلة، ومن ثم، لابد أن ينعكس هذا الشد والتوتر في السلوك وفي الحديث وفي طرائق التفكير بشكل عام. ويضيف صادق أنه إلى جانب أن أصول ومنابع التنشئة في هذه الأسرة في الأعم الغالب منحدرة من أصول ريفية أو قروية أو بدوية أحياناً، وهنا تبرز إلى السطح السلطة الذكورية القامعة التي تحد كثيراً من قابليات وقدرات الآخرين على التعبير عن أنفسهم وذواتهم بطريقة مسترخية وهادئة.
ظلال الأب
ولا يختلف الكاتب الصحافي عمار السواد عن آراء المتحدثين كثيراً، ليؤكد أن العامل الرئيس يتركز في ثقافة القمع التي يعاني منها المجتمع العراقي، سواء على مستوى السلطة أو الأسرة أو بقية مراكز التأثير في المجتمع. فالطفل ليس سوى ظل أبيه، والشعب لا يكرر سوى مقولات قائده وزعمائه، كما لعب رجل الدين دوراً مركزياً في هذا الأمر، كونه يدفع باتجاه الخطاب الجاهز القوالب. بمعنى أن المجتمع لن يجد سوى اللباقة في ما هو جاهز وعندما يخرج عليها سيعاني. لهذا من السهولة أن تجد أن شيخ العشيرة يتحدث بلباقة في مجاله المتصل بحل النزاعات، لكنه يعاني خارج هذه المساحة، لأن كل شيء متراكم ومرتب له، وحين يخرج عنه لن يجد ما يقوله. اللغة في العراق باعتبارها قناة معرفية؛ حسب رأي السواد، ليست مستخدمة استخداماً كبيراً إلا عبر المنهجيات المعروفة، شعر، خطاب سياسي، خطبة دينية، نزاع قبلي… كما أن ضياع العراقي بين اللهجة العامية واللغة الفصيحة وعدم قدرته على الفصل بينهما يجعل منه مركباً في استخدام الكلام وتوظيفه، هذا أيضاً يعود إلى القدرة على التفكير، فرغم أن العراقيين يمتلكون جدلهم الخاص في مجمل القضايا، إلا أن منهجية التفكير الأحادية تجعل منهم مكرسين ضمنها، بمعنى آخر سيعانون حين يتحدثون بأشياء لم يسمعوا عنها، لأن مثل هذه الحالات تحتاج منهجيات تفكير عالية.. بشكل عام، إن التزامن بين التفكير والنطق حرفة، لا يمكن أن تكون لمجتمع لم يعتد أن يفكر إلا بصمت، من دون أن يتحدث.
سطوة قامعة
وفي تجربته الطويلة في العمل الإذاعي، يتحدث ناصر الحجاج عن الحوارات التي كان يديرها من خلال عمله، مبيناً أن المجتمع العراقي مصاب بأمراض اجتماعية نفسية (ثقافية) عديدة، منها الخوف من المجتمع نفسه، فسنوات من القمع والبوليس السري، جعلت العراقي يتكلم بالألغاز والتعبيرات المجازية، وبمتابعة بسيطة للشعر الشعبي العراقي يجد تعبيرات الشكوى من (الزمن، والدنيا، والدهر، والوقت، والأيام، والحظ، والقسمة والنصيب) ويتجنب القول مباشرة ما سبب مشكلته، فالعراقي جبان (اجتماعياً) لا يفضل المواجهة، لأنه إنما يجد نفسه تحت سلطة أبوية قاسية في البيت، والمدرسة وموقع العمل، والجيش والمؤسسة العامة والخاصة وفي الشارع، سلطة شيخ العشيرة، ورجل الدين، والزعيم السياسي، وهؤلاء يتقاسمون المعرفة وهي محصورة بهم، ولهذا نصيب العراقي السكوت (ذبها برقبة عالم واطلع منها سالم)، أي دع غيرك يتصدى لها، أو أن يجد العراقي المجتمع يسخر منه ومن لغته ومن إمكاناته فأكثر ما يخشاه العراقي حين يريد أن يطرح فكرة جديدة أو مشروعاً مهما أنه يواجه بتعبيرات قاسية محطمة مخيبة للآمال من مثل (يا معود: وتعني إنسى الموضوع يا صديقي) أو أن يقال له: (لقد أسمعت لو ناديت حياً.. أي إنك لن تجد أذنا صاغية في مجتمعك) أو أن يسمع تعبير آخر لا يقل إحباطاً وهو (ما تصير لها جارة: أي إن القضية لا علاج لها) وهذه التعابير السلبية وغيرها في الثقافة العراقية جعلت الفرد العراقي مترددا في التعبير عن أفكاره.
ويسرد الحجاج سبباً آخر لضعف اللغة، وهو ضعف التواصل والاحتكاك الاجتماعي، إذ لا تتيح العائلة العراقية (المحافظة) للطفل؛ بل وللمرأة العراقية، الثقة الكافية لأن يختلطا بالمجتمع خوفاً عليهما من (التحرش الجنسي) من قبل الشارع العراقي، فيكبر الطفل حتى يصل الجامعة لتبدأ هناك لغته الحقيقة، هذا بالإضافة إلى أن المراكز المعنية بإطلاق طاقات التعبير لدى الفرد اختفت، كالمنتديات الأهلية والإعلامية، حتى أن درس الخطابة لم يعد موجوداً في المدارس والجامعات كما هو متوفر في الغرب. ويشكر الحجاج الفيسبوك، لأنه أتاح المجال للعراقيين ليعبروا عن مكنوناتهم ويطورا لغتهم من دون سطوة مجتمعهم القاسي.
روح الجماعة
من جهته، يرى الفوتوغرافي صباح والي أن المثقف العراقي (يصعب توصيف المصطلح على حدِّ قوله) عانى من تعاقب حقب فكرية واجتماعية وسياسية لم يكن في أيٍّ منها فاعلاً بشكل حقيقي، وقد يكون ذلك بقصدية من قبل السلطات المذكورة، ولكنها أيضاً من طرف جزء كبير من هذا المثقف (كجسم ثقافي) الذي تماهى كثيراً مع تلك السلطات بتنوعها. موضحاً: وبتراتبية زمنية وصل المثقف لأن يكون جزءاً من الآليات الفاعلة، ومنتشياً بزهو الانتماء وملتزماً بأداء الروتين المطلوب منه أن يقوم به. ويؤكد والي أن مشكلة الانتماءات عادة ما تنهي فكرة الإبداع المقرونة بأفق حرية غير ممنهج، الانتماءات ترسم خطوات قادمة وبذا قد تصبح الطلاقة أو اللباقة في أي موضوع مقترنة باشتراطات الخوف من الخروج على المألوف أو السائد… ربما بنرجسية ما يخشى المثقف أن يفقد صورته البراقة أو الخروج من جنته الموهومة.
والي يستمر في حديثه: قد تكون المشكلة أكبر إشكالاً لدى المواطن الذي يكون قد قضى فترات طويلة يخشى الكلام أمام الناس أصلاً بدوافع الخوف المؤبد من السلطة السياسية القامعة للرأي، لذا اشتهرت النكتة السياسية على الحاكم لأنها تختصر كلامه أو تعفيه من التعبير أو حتى الإدلاء برأيه، لأن النكتة رأي معلن، وربما تكون الشائعة هي الأكثر تداولاً لأنها لا تحتاج كثيراً إلى التفكير، أو ربما لأننا لم نتعلم روح الجماعة بشكل صحيح, والخشية من الآخر المستمع الذي يشاهد، أو ربما لأننا لم نجرب تجربة ديمقراطية حقيقية طوال هذه السنوات.
مزاج سيّئ
ويبتعد الناقد والشاعر جمال جاسم أمين عن تلطيف الظاهرة أو التخفيف من أهميتها، مشيراً إلى أنها لن تخرج عن دائرة المزاج السيئ للجماعة، لأن التلقائية ببساطة دليل الصدق، وإن أي تكلف أو تحذلق يشير ببساطة إلى أن المتحدث يمارس رقابته على ذاته، بل وقمعه أيضاً قبل أن يتفوه، هنا يتدخل الكبت السياسي وشيوع النفاق الاجتماعي بوصفه ضمانة للعيش المسالم في ظل جماعة متناحرة أبداً. أما الأدباء والمثقفون العراقيون فهم الشريحة الأكثر تزويراً للكلام! هؤلاء ببساطة رشوا الملح على جرح الجماعة العراقية المتصدعة!
بالطبع كل تعميم خاطئ، هناك من مضغ ملحه رأفة بالجرح! نكص منعزلاً لا غير، أظنها مشكلات اجتماعية عويصة لها طفح ثقافي هنا أو هناك ومغزى هذا السؤال بثور من طفح ذلك الجرب العميق!
أحادية الاهتمام
يختلف الكاتب سعدون محسن ضمد عن بعض الآراء التي تؤكد هذه الظاهرة في الثقافة العراقية، موضحاً أن التعميم في مثل هذه الأحكام صعب جداً، وربما أن البيئة السجالية المتاحة في الفيسبوك، تسمح لنا أن نخرج بحكم مختلف عن هذا الموضوع، ففي هذه البيئة يبدو العراقي فعّالا جداً، ويتنقل وهو يطرح آراءه بين مختلف المواضيع، لا بل إننا نستطيع أن نقول بأن القدرة على طرح الرأي بثقة جيدة والدفاع عنه تنامت في هذا الفضاء الافتراضي بشكل جيد جداً، خلال السنوات الأخيرة، «صحيح أننا نحتاج إلى إجراء مقارنة ولو بسيطة بين فضاء التعاطي العراقي وفضاء يتعاطى خلاله أي مجتمع آخر، لكي نستطيع أن نخرج بنتيجة تؤكد موضوع الثقة أو تنفيه، لكن احتدام النقاشات في الفيسبوك وكثافة الآراء وتنوعها في الجدل الذي يثار، تتيح لنا أن نخرج برأي، مقبول إلى حد ما، يؤكد موضوع الثقة، أو مستوى مقبول منها». مشيراً إلى أنه يمكن أن نلاحظ غياب شؤون ثقافية، مهمة، من هذا السجال، وضعف الاهتمام بشؤون أخرى، فمثلاً، نجد بأن تناول ما له علاقة بالعلوم الصرفة يكاد يكون منعدماً، وإذا وجد، فإن التفاعل معه لا يكون بالمستوى المطلوب. كما أن تناول المواضيع ذات العلاقة بالفنون الجميلة نقداً وتقييماً، هو الآخر لا يكاد يجد له مجالاً واسعاً، ربما لأن ارتفاع الجدل حول المواضيع السياسية يطغى على أي تناول آخر، لكن هذا لا يبرر أهمية حضور مثل هذه الهموم الثقافية… على كل حال، ومن وجهة نظر خاصة، نابعة من مراقبة لا بأس بها للجدل الثقافي العراقي في العالم الافتراضي، «استطيع أن أقول بأن هذا التعاطي لا يعاني من فقدان ثقة كبير، أو أن فقدان الثقة المُتصور لا يشكل ظاهرة تميز هذا التعاطي عن غيره».
انحسارات شتى
في حين يعزو عدي شبيب، وهو باحث في علم الاجتماع إلى أن الأمر عائد إلى إشكاليات القراءة لدينا، فبعد ظهور عصر الطباعة وانتشار الكتاب وفرص التعليم في المجتمع العراقي وظهور الجامعات والمعاهد في العراق، أدت إلى مشاركة كبيرة من أبناء المدن وحتى الأرياف وظهور الطبقة الوسطى في العراق من المتعلمين والطلبة المبتعثين خارج العراق، ما ساهم بشكل مباشر بنقل المعرفة العلمية وتراكمها وظهور مؤسسات ثقافية تهتم بنشر الثقافة بصورة عامة، ازداد الطلب على الكتاب لزيادة المعارف العامة والمعارف الأدبية والعلمية على مستوى الثقافة الشعبية، أي خارج نطاق الأكاديمية والثقافة الأكاديمية وظهور الكتاب المعروفين لدى القارئ والمتلقي العادي، وخاصة بظهور الصحف والمجلات ومشاركة الأكاديميين، كل تلك التبلورات وتأثيرها ظهر جيل مهتم بالثقافة وقارئ جيد ظهرت مع مساحة الحرية الفكرية والأدبية والطرق السليمة للتعبير عن ذلك، سواء على مستوى الأدباء في الرواية والشعر والمواقف السياسية الأخرى التي كانت يتبناها وهذه الفترة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي, وصولاً إلى عقد الثمانينيات وسيطرة آيديولوجيا السطة على المستويات كافة وإبراز نموذج فكري واحد على مستوى التعليم، ما أدى إلى قتل فرص التفكير والنقاش أو أي فكرة تعارض الفكر الآخر، ما جعل من القراءة بشكل نسقي مؤدلج لفكر معين وهو ما أدى لغياب فكرة التنوع والإبداع، مما أثر بشكل مباشر على آليات التواصل, وبعد ذلك ما تبع الحصار الاقتصادي وتأثيره على القارئ وانحسار الفرص الكبيرة أمامه، هذه الأسباب وغيرها جعلت الباب موصداً أمام التواصل مع المعرفة بكافة أشكالها، ما أثر بشكل مباشر على الفرد بصورة خاصة والأدباء أو المثقفين بصورة عامة.
المصدر: القدس العربي